الإرادة

شريط طويل لحياة في مقتبلها… اِسمي ميس وهذه حكايتي

شيماء شريف

رأيت ميس أول مرة في مسبح تشرين في مدينة الحسكة، ألقتها أمها في الماء بكثير من الشجاعة حتى أني ظننت أنها لا تبالي إذا غرقت طفلتها في الماء. ظلت عيناي في حالة رصد وترقب على الرغم من كلمات الأغنية الهابطة التي تعلو في خلفية المشهد. كانت تقول هذه الأغنية (الهدف مرصود والرشاش جاهز) …

رحت أتحدث إلى والدة ميس في كثير من الفضول والشك لأسألها كيف لها أن تلقي طفلتها هكذا فهي على ما يبدو مصابة بشلل رباعي، ولن تتمكن من إنقاذ نفسها. قاطعت ميس الحديث لتقول إنها ستنجو كما نجت من كل الأهوال التي ألقيت فيها من قبل.

تعيش “ميس يساوي” وهي بعمر 16عاماً مع والديها وأخواتها الثلاث في منطقة تعتبر خطاً ساخناً في مدينة الحسكة، كونها تفصل بين المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية حيث يتمركز الدفاع الوطني، والمناطق التي تسيطر عليها الإدارة الذاتية وحيث تنتشر الكثير من العشائر العربية. تجددت الاشتباكات في الأيام الماضية في محيط شقة ميس وعائلتها، ولم يتمكنوا من مغادرة البيت واللجوء إلى مكان أكثر أماناً، ومن جديد تشعر ميس بالخوف…

تعود ميس بذاكرتها إلى ما قبل الحرب بقليل”عندما كنت طفلة صغيرة كانت لعبتي المفضلة هي الجري وراء الأطفال ومطاردة بعضنا لبعض. على الرغم أني لم ألعبها يوماً في الحقيقة، لأني أتنقل على كرسي متحرك، ولكنني كنت ألعبها في مخيلتي مع أصدقائي الذين لم أملكهم في الحقيقة. اللعبة التي كنت أتجنبها تماماً هي لعبة التراشق بالماء لأنني كنت أعلم أنني سأكون الهدف السهل لبقية الأطفال، وسأقع وأبتل بالماء ولن أستطيع الوقوف، لم أكن أعلم بأن مخاوف الأمس ستكون أمطار صيف لطيفة بالنسبة إلى ما سأعيشه من رعب وخوف في هذه الحرب. لم أحسب أن الأطفال الذين تراشقوا بالماء وهم صغار سيتراشقون بالرصاص والقنابل، وبأن الوقوع في هذه اللعبة لا وقوف بعده، وبأن البلل سيكون هذه المرة بالدم وليس برذاذ الماء البارد” هكذا وصفت ميس شعورها عندما تسمع أصوات تراشق الرصاص خارج جدران منزلها في هذه اللحظات.

شردت والدة ميس حالمة متذكرة الأيام الأولى لميس في هذه الحياة:

-“من وين إنتي جاية… من أي صحراء؟”

هكذا صرخت في وجهي الطبيبة النسائية، معاتبة بعد أن فحصتني وعلمت أن السائل الأمنيوسي قد تسرب بشكل كامل منذ عدة أيام وأنني أهملت هذا المؤشر ما تسبب بجرثمة الدم وتسبب بضرر مركز الحركة في الدماغ عند الجنين، قلت للطبيبة الحقيقة مدافعة عن نفسي بصوت يرتجف بأن هذه كانت توصيات الطبيبة السابقة.

طلبت الطبيبة تجهيز غرفة العمليات علها تنقذ الموقف بعملية قيصرية، أتذكر كيف صحبتني زوجة خالي إلى الحاضنة، كانوا ثلاثة أطفال في الغرفة. عرفت ابنتي مباشرة، شعرت بنشوة قوية تملأ قلبي وحمدت الله على جمال هديته، لكن زوجة خالي طلبت مني أن أدعو الله ألا يطيل عمر ابنتي لأنها تعرضت لنقص في أكسجة الدماغ. نظرت إلى طفلتي ودعوت الله أن يطيل في عمرها ويحفظها لي.

لم أشعر بالصدمة عندما عرفت بأن طفلتي ستكون من ذوي الإعاقة، كان لدي إحساس عميق قبل أن أتزوج أنني سألد طفلة من ذوي الإعاقة حتى أني دائما ما كنت أردد قصيدة شعرية لا تغيب عن مخيلتي، كأني كنت أشعر بأنني سأعيش تفاصيل هذه القصيدة يوماً ما… القصيدة ان سال من غرب العيون بحور – عائشة التيمورية – الديوان (aldiwan.net)

لم أكن أعلم بأن مخاوف الأمس ستكون أمطار صيف لطيفة بالنسبة إلى ما سأعيشه من رعب وخوف في هذه الحرب. لم أحسب أن الأطفال الذين تراشقوا بالماء وهم صغار سيتراشقون بالرصاص والقنابل، وبأن الوقوع في هذه اللعبة لا وقوف بعده، وبأن البلل سيكون هذه المرة بالدم وليس برذاذ الماء البارد…

صحيح أني لم أغرق في الكآبة بسبب وضع ابنتي، ولكني في نفس الوقت حاولت علاجها، ولم أيأس أبداً. عملت جاهدة على تسجيلها في مركز مختص بالأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، والذي رفضها بحجة أن وضعها العقلي طبيعي، ويمكنها الالتحاق بالمدرسة مثل أي طفل آخر كونها تعاني من شلل رباعي ولا تعاني من مشاكل في الفهم والتذكر والتعلم، لكن مديرة المدرسة المجاورة لم تقبل استقبال ميس في الصفوف الدراسية وبعد جهود وتدخلات وواسطات، وافقت المديرة على مضض، بعد أن أحضرت لها قرار من مديرية التربية عام 2012. بعد 5 سنوات أصبحت ابنتي في الصف السادس الذي كان في الطابق الثالث من المدرسة، وكان من المستحيل بالنسبة إلى ميس أن تصل هناك، ورفضت المعلمة أن ينتقل الصف السادس إلى الطابق الأرضي برغم أني كنت أعمل بنفس هذه المدرسة كمعلمة أيضاً، وبعد أن عجزت كل المحاولات لإقناعها اضطرت ميس إلى ترك التعليم..

بعد أن فقدت الأمل من علاج ابنتي لأن الأطباء أجمعو أنه لا جدوى من ذلك إلا العذاب والألم لها ولنا، لجأنا إلى طرق أخرى منها الرقية والمشايخ. أخبرني أحد هؤلاء بأنها ملبوسة من قبل الجن، ولهذا لا تستطيع الحركة والمشي، وبأنهم سيقومون بشفائها عبر ضربها، ووعدوني أن هذا لن يؤلمها لأنه سيضرب الجن فقط. لم أصدق هذا الهراء ولجأت إلى معالج فيزيائي شهير وعدني أن ابنتي ستمشي قريبا بل وستركض، ولكن ذلك بحاجة لبعض الوقت، وبدأت رحلة ميس مع الألم، حيث داوم هذا المعتوه على تعذيبها لمدة 9 أشهر بحجة العلاج الفيزيائي، والدها وأنا نسمع أصوات بكائها وصراخها إلى أن وصل الألم بميس أنها لم تعد تستطيع النوم أو الأكل، فقمنا بإسعافها إلى المستشفى لنكتشف بأن العلاج الفيزيائي تسبب بكسر في عظام الحوض، وللأسف اضطررنا أن نترك المجرم يفلت من العقاب، لأننا انشغلنا بعلاج ميس حيث احتاجت إلى إجراء عدة عمليات جراحية حتى تعود إلى وضعها ما قبل العلاج.

لم تنته مأساة ميس هنا. كطفلة ولدت مع الإعاقة واضطرت أن تشهد أهوال الحرب وهي تخوض صراعاتها الخاصة مع المرض، كان هناك كثير من اللحظات التي تفصل الموت عن الحياة حرفياً، تروي والدة ميس أصعب الأوقات التي مرت بحياة ميس “عندما اكتشفت بأن جسد ابنتي يحترق نتيجة التصاق شظايا مشتعلة بجسمها. حدث ذلك عندما فجر تنظيم داعش صهريج للمحروقات بجانب مدرسة (أدوار إيواس) عام 2016، حيث هرب الجميع بمشهد مرعب لا نعلم من ماذا نهرب ولا نعلم إلى أين، كنا فقط نركض على غير هدى والغبار يحجب الرؤية، وبعد سكون العاصفة تلفت حولي فلم أجد ميس فهرعت إلى المنزل لأجد ابنتي واجمة في مكانها فاغرة الفم والدخان يتصاعد من حولها لقد كان وقع الانفجار شديداً لدرجة أنها لم تكن تشعر بتلك الجمرات الملتصقة بجسدها الهزيل.

كانت ميس تستمع بحزنٍ مكبوت لحديث أمها وهي تعيد أمامها الشريط الطويل لحياتها التي مازالت في بدايتها. كأن ذاكرتها قد انسكبت فجأة بكل هذه التفاصيل، فظهر في الأفق اليوم الذي لا ينسى، يوم الزلزال. قالت ميس: “كل عمري أحلم بأن أتحرك فوق الأرض، ولكن لم يخطر ببالي بأن الأرض هي التي ستتحرك من تحتي يوماً ما. شعر الجميع بشيء غريب، في البداية سمعنا صوت الأبواب فظننا أن ثمة لصوصاً أو جنوداً يداهمون شقتنا، ثم ما لبثنا أن سمعنا أصوات الجيران. كان الجميع يركض ويصرخ كأننا في مشهد سينمائي لفلم رعب. شعرت بأن الأرض أصبحت منزلقا لا أعرف بماذا أو كيف أصف ما شعرت به حينها، ولكنني فقط في تلك اللحظة تيقنت بأننا نعيش على ظهر كرة! (الكرة الأرضية).

تكمل أم ميس حديثها “اليوم ميس رفيقي الدائم وأنيسي في هذه الحياة. لا أشعر أبداً أنها سبب للحزن أو الكآبة، بل على العكس أشعر بأنها سبب للسعادة والمرح على الرغم من كل المصاعب التي نعيشها يومياً بسبب نظرة المجتمع ورغم معاناتنا بكل خطوة نخطها خارج المنزل، لأن الشوارع والحدائق والمدارس وحتى عيادات الأطباء غير مؤهلة لميس كي تمشي فيها، واليوم أقصى أحلامي أن نغادر أنا وميس هذه الحياة سوياً وألا تفارق إحدانا الأخرى”. لا تخفي أم ميس أن أكبر مخاوفها هو ترك ميس وحيدة، ليس فقط لأنها من ذوي الإعاقة، بل خصوصاً لأنها أنثى في مجتمع يقسو على النساء ويعتبر أنهن أقل في كل شيء حتى الحق بالحياة، كما يقول لي بعض الأصدقاء (لو كانت ابنتك صبياً كان الأمر أسهل، ولكنها أنثى وفوق ذلك معاقة… الله يكون بعونك وعون أبوها)..

بين الحين والآخر تشارك ميس حديثي أنا وأمها لتعطي رأيها بما تخبرني إياه أمها، وبعض الأحيان كانت تشتم ببراءة بعض الشخصيات التي لعبت دوراً سلبياً في حياتها مثل مديرة المدرسة تلك أو ذلك المعالج. اكتشفت أن ميس تحب الكتابة كثيراً، وتجب سرد الحكايات، وهي تمارس السباحة كل أسبوع ولا تسمح لوالديها بنسيان المشوار إلى المسبح مهما علت أصوات الاشتباكات في الحسكة.