دفن السوريون الكثير من الموتى في العشر سنوات الماضية، ودفنوا أيضاً أيادي وأرجلاً وأذرعاً وأطرافاً. تغيب الإحصاءات الدقيقة حول عدد الإصابات بين ضحايا الحرب في سورية، وتقدر اليونسيف أن أكثر من مليون شخص ونصف أصيبوا منذ آذار ٢٠١١، وأن مابين ١٠ ٪ إلى ١٥ ٪ من الإصابات تتحول إلى حالات بتر للأعضاء. وبحسب تقرير نشرته منظمة الصحة العالمية عام 2018 تسببت الحرب في سورية بحالات بتر لـ 86 ألف شخص. هؤلاء هم الذين سيحملون ذاكرة الحرب على كراسيّهم المتحرّك أو مع أطرافهم الاصطناعيّة.
بانتظار قوائم الانتظار
يوجد عشرات المراكز الحكومية والجمعيات الأهلية التي تقوم بتركيب وتصنيع الأطراف الصناعية للسوريين داخل الأرض السورية وفي دول الجوار، ومع ذلك، لا زال الآلاف بانتظار دورهم على قوائم الانتظار.
عمر هو أحد هؤلاء الجالسين في طابور الانتظار على أمل أن يأتي دوره ويحصل على طرف صناعي يشبه طرفاً كان جزءاً من جسده ، يحلم بتركيب يد صناعية تساعده على عيش حياة طبيعية، فقدْ فقدَ يده منذ أربع سنوات، وكان ما يزال في المدرسة. تعلم الكتابة باليد اليسرى وقضاء معظم حاجاته لكن تركيب يد يمنى سيمكنه من ممارسة حياته واختيار مهنة. في أتون الحرب، أصبح فقدان الأطراف العلوية “أقل الشرور”، في حين أن فقد الأطراف السفلية قد يسبب إعاقة كاملة حركية ويمنع الضحايا من أداء مهامهم البسيطة، لذا يعطو الأولوية في تركيب الأطراف، لكن ما زال من المحزن أن لا تستطيع الحصول على المساعدة لأنك “لست معوقاً بمافيه الكفاية” كما يعلق عمر.
وتقول رابطة الأطباء الدوليين إن نسب إصابات الساق وبتر الأذرع في سوريا هي الأكبر في العالم منذ الحرب العالمية الثانية، فيما تشير اليونسيف أن هناك آلاف المصابين السوريين ممن يتألمون لعجزهم عن الحصول على الرعاية الطبية أو الدعم النفسي، ويتعرض كثيرون منهم للإقصاء من مجتمعاتهم، وقد خلق هذا حاجة ملحةً لإنشاء مراكز مختصة بصناعة الأطراف الصناعية تعيد الأمل للمتضررين وتحاول دمجهم في المجتمع من جديد.
وحسب مصادر طبية، يصبح المريض جاهزاً لتركيب الطرف بعد عملية البتر بأربعة أشهر، في حال لم يكن يعاني من مشاكل عظمية أو عصبية. ويكون المريض في أحيان كثيرة بحاجة إلى تأهيل نفسي، بالتوازي مع عمليّة التركيب. كما يحتاج معالجة فيزيائية قبل التركيب وبعده. لكن معظم المرضى لا يحصلون على هذه المعالجة الضرورية كما أن المتابعة وتغيير قياسات الطرف بحال فقدان الوزن مثلاً أو حدوث خطأ أثناء القياس هي أمور صعبة التحقق في مواجهة ضعف الإمكانيات وقوائم الانتظار.
اقتصاد الأطراف:
صناعة جديدة راحت تزدهر في سورية وهي صناعة الأطراف لتمنح أملاً للآلاف وتعين كثيرين على متابعة حياة كانت تبدو لهم شبه مستحيلة. فقد دفعت حاجة عشرات الآلاف من المصابين، وغلاء الأطراف المستوردة الكثيرين إلى البحث عن بديل محلي لكنها خلقت أيضاً سوقاً لتجار الأزمات.
لا تستطيع بشرى تحمل شراء طرف صناعي لابنتها التي فقدت قدمها في لغم أرضي في الرقة. وجدت العائلة جمعية في تركيا لتساعدها لكنها قلقة بشأن المستقبل فابنتها تحتاج تعديل وأحياناً تغيير الساق الصناعية كل بضعة أشهر مع نموها المستمر. لقد أعطتها هذه الساق حياة ثانية ومكنتها من الذهاب للمدرسة وتكيفت معها حتى أنها ترقص بها، لكن ما أن تنمو الفتاة بضعة سنتيمترات حتى يتحول الطرف الصناعي إلى سكين حادة يسبب لها أوجاعا وقروحا، فتعود لحزنها وترفض اللعب والخروج من البيت.
بعض المراكز لديها أطباء وكادر متدرب يعمل ضمن معايير طبية عالمية ويقوم بتركيب وتصنيع الأطراف وفقها. فيما المناطق المنكوبة أو المحاصرة تعتمد على ورش محلية صغيرة تعمل بجهود ذاتية.
ففي ورشة صغيرة في مخيم السلامة يتم صبّ المعدن على آلة حديدية، بعد تذويب مادة بلاستيكية في فرن وتطويعها على قالب من الجص مصنوع وفق القياسات المطلوبة. وهذا الحل البسيط يفي بالحد الأدنى الذي يسمح للمصاب أن يمشي على قدميه حتى لو كان يعرج أو يتألم أثناء المشي لأن الطرف التعويضي ليس مناسباً تماماً لقياس رجله.
يواجه المرضى رحلة طويلة مع الألم بعد تركيب الطرف الصناعي نظراً لغياب القياس الدقيق للطرف المُراد تركيبه حيث مايزال القياس يؤخذ بالطرق التقليدية غير الدقيقة. ومايزال الكثير من المراكز حتى الحكومية تعمل بالطرق البدائية ويتم فيها تركيب أطراف حركية عادية محدودة الحركات خلافاً للأطراف الذكية ذات التكلفة المرتفعة. فالارتفاع لا يتوقف فقط عند أعداد المصابين، بل يشمل أيضاً ارتفاع كلفة تركيب الأطراف الصناعية، وخاصةً مع ارتفاع سعر الصرف.
حاول الكثيرون تجاوز هذه الصعوبات من خلال تصنيع هذه الأطراف محلياً بمواد بسيطة وتقنيات بدائية ورغم أن هذا الحل أفضل للكثيرين من البقاء دون أي طرف إلا أنه ترك هؤلاء مع غصة وشعور طاغ أنهم ظلموا مرتين مرة بإصابتهم في الحرب ومرة بسبب وضعهم المالي الذي منعهم من الحصول على ما يحتاحونه حقاً لإعادة ولو جزء بسيط من الحياة الطبيعية من خلال تركيب طرف بكفاءة عالية وتأهيل المصاب نفسيا وجسديا وتدريبه.
وتستخدم المراكز والجمعيات السورية الأطراف التجميلية والميكانيكية فقط ومعظمها غير قادر على تركيب أطراف كهربائية وإلكترونية لضعف التمويل حيث قد تصل كلفة يد إلكترونية إلى 45 مليون ليرة. ولا تقل كلفة الطرف الصناعي اليوم عن مليوني ليرة سورية للأنواع متوسطة وضعيفة الجودة المصنوعة من خامات تركية أو هندية أو صينية، بينما كان الطرف الإلكتروني الممتاز يكلف 300 ألف ليرة قبل العام 2011.
تؤكد الدراسات أن تكاليف إعالة الأشخاص ممن فقدوا أطرافهم أكبر بكثير من تكلفة توريد الأطراف الذكية ذات الكلفة المرتفعة. يبدو أن الحل هو دعم صناعة الأطراف الاصطناعية والأجهزة التقويمية أو البديلة، سواء في الأجزاء العلوية أو السفلية لتصبح أحد الاقتصاديات المتصاعدة في سورية فالحاجة أم الاختراع.
لابد من إنشاء العديد من المراكز المتخصصة في صنع وتركيب وصيانة الأطراف الصناعية والاستعانة بخبراء من الخارج، وتدريب كوادر محلية، وفتح العديد من الشركات الطبية أقسام متخصصة لشراء هذه الأطراف. حسب المختصين، هناك صعوبات تعترض انتعاش اقتصاديات الأطراف التعويضية تتمثل في قلة عدد المراكز المسئولة عن صناعة وتركيب الأطراف، وضعف البنية التحتية وتعقيدات تأمين المواد الأولية التي تدخل في صناعة الأطراف، ونقص الكوادر المتخصصة وارتفاع تكلفة استيراد المواد التي تدخل في صناعة الأطراف، ومحدودية الدعم المقدم من المنظمات الإنسانية.
خريطة المراكز
خلال عشر سنوات، عاش السوريون معادلة مشتركة، فقد تنام معافى ثم تستيقظ وقد فقدت أحد أطرافك هذا إن لم تفقد حياتك. كان الوجع واحداً وإن تغير المتهمون. تعدّدت أوجه الإصابة، واختلفت الفئات العمرية والانتماءات السياسية، وبقيت المعاناة التي ستستمر لسنين لأن نقص الخدمات والتأهيل موجود على كامل الخريطة السورية بغض النظر عن سلطات الأمر الواقع.
زادت حالات البتر في سورية بنسبة تتراوح بين 200 إلى 300 في المئة عما كانت عليه قبل العام 2011، حيث كانت الحالات محدودة جداً وبفعل الأمراض المزمنة وحوادث السير، وكانت حالات البتر للأطراف العلوية أو السفلية من فوق الركبة لا تتجاوز نسبة 2.5 في المئة من الاحتياجات.
في دمشق ثلاثة مراكز تابعة لجمعيات أهلية أهمها جمعية خطوة إضافة إلى مركز للهلال الأحمر بالعاصمة وآخر بحمص بالتنسيق مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومركز صناعة الأطراف الصناعية في اللاذقية ومركز إعادة التأهيل في حلب. وهناك مراكز حكومية توفر خدمة الأطراف الصناعية وهي مركزان للخدمات الطبية العسكرية بدمشق وطرطوس ومركزان لوزارة الصحة بدمشق وحمص.
توضح بيانات مركز الأطراف الصناعية في منظمة الهلال الأحمر العربي السوري أن المركز يصنع ويركب نحو 50 طرفاً صناعياً شهرياً حيث يقدم خدمات مجانية بالكامل تشمل تقييم حالة المصاب وتصنيع وتركيب الطرف الصناعي وتوفير مكان إقامة له حتى انتهاء فترة التأهيل مع إمكانية تأمين منحة لتأسيس عمل له قد تصل إلى 5ر1 مليون ليرة ضمن برنامج سبل العيش، وتدير اللجنة الدولية للصليب الاحمر مركزاً مماثلاً في مدينة حلب.
وتدعم منظمات دولية مرافق طبية في مناطق خارج سيطرة الحكومة السورية، في ريف حماة الشمالي، هناك مركز الشام للأطراف الصناعية وهو المركز الوحيد في المنطقة، وكذلك مركز الأطراف الصناعية في ريف إدلب الذي يعمل كفرع للمركز الرئيسي في مدينة أنطاكية التركية. وأيضًا مركز الأطراف الاصطناعية في ولاية هطاى جنوب تركيا، الذي أسس بالتعاون بين مكتب المفوضية الأوروبية للمساعدات الإنسانية والحماية المدنية ومنظمة “ريليف” الدولية.
في الجنوب، هناك مشروع “حياة” للأطراف الصناعية في جنوب سورية ببلدة تسيل بريف درعا والقنيطرة، ومؤسسة “فجر الأمل” لتركيب الأجهزة الصناعية لأصحاب الأطراف المبتورة.
وفي أعزاز على الحدود السورية التركية، هناك جمعية “الخطوات السعيدة” التي افتتحت مؤخراً مركزها الجديد، وقامت الجمعية بتركيب مئات الأطراف الصناعية، حتى أنهم بدؤوا بتصنيعها محليا منذ ثلاث سنوات. وهاهو عبد المولى إبراهيم الذي أصيبت رجله وهو لم يتجاوز العام السادس عشر، يصبح المعالج الأشهر في منطقة حلب فقد دفعته إصابته للحصول على شهادة أخصائي علاج طبيعي والعمل في مركز الباب للأطراف الصناعية الذي تموله جمعية (يد في يد من أجل المساعدة والتنمية) في مدينة الباب قرب حلب.
خلّفت عشر سنوات من الحرب في سورية مئات آلاف المصابين الذين تلقّوا إسعافات في مستشفيات ونقاط طبية متواضعة، ليخرجوا منها مبتوري الأطراف، ينتظرون فرصة تمكنهم من العودة للاندماج بالمجتمع وممارسة حياتهم الطبيعية. حياة هؤلاء لم تنتهِ، لكنها تحوّلت إلى وجع كبير لهم ولذويهم في ظل كثرة أعداد المصابين وقلة الموارد البشرية والمادية في كل المناطق السورية دون استثناء. إلا أنّ تركيب طرف صناعي هو بمثابة تقديم فرصة حياة ثانية، فلا شيء يوازي الفرح الذي يغمر شخصاً فقد الأمل في حياته. كلّ شخص حصل على طرف صناعي، هو قصة تُروى.