الإرادة

سوريا التي تحررت: الطريق إلى دمشق

خليل سرحيل

أتابع أخبار تحرير حلب وصُعقت مثل الكثيرين من تسارع الأحداث. لدي مخطط للسفر إلى الأردن بعد ثلاثة أيام. أتمنى أن أذهب وأعود كي أحضر اللحظة التي انتظرتها وكلي يقين أنها آتية. ولكن هذا لم يحدث. بعد وصولي إلى البحر الميت، وجدت نفسي أبحث في القاعة الكبيرة عن السوريين المهاجرين إلى كل بقاع الأرض وأبكي للمرة الأولى وأنا أحتضن شابًا اسمه خليل من محافظة دير الزور، نبارك النصر والحرية.

قبل السفر قلت لصديقي إنه لا مشكلة لدي في أن أتقبل الموت بشرط أن أرى بشار الأسد يموت قبلي. وأجابني ضاحكًا إنه يتمنى له محاكمةً طويلة للغاية، ولم يعلل السبب. سلمت نفسي للطريق، الطريق الذي قضيت حياتي عليه بين اللاذقية ودمشق. أعرف قربي من البحر من رائحة الرطوبة، وأعرف وجود الحواجز من زيادة المطبات وأكشاك تهريب البنزين في الذهاب والعودة. لدي يقين بأني سأخرج إلى الأردن من غير مصاعب، لكن أفكار العودة كانت ضبابية. هل ستتوقف الحرب في حماة أو حمص؟ هل سيقطع الطريق؟ وهل سيسقط الطاغية؟ وماذا سيحدث عندما أعود؟ ما شكل البلاد وهويتها التي نخرها السوس والعفن؟

يقول الكثير إن نظام البعث غير الهوية السورية وقسم البلاد بطرق معقدة ومركبة، وأنه يجب على السوريين إعادة تشكيل هوية جديدة تحتضن الجميع ولا إقصاء بها. تبدأ بنفي الصور النمطية، مثل أن السوريين لم يعودوا لاجئين أو يسكنون المخيمات وغيرها الكثير. لم أكن أعلم أن كل هذه الأسئلة التي سببها رحيل الطاغية كانت تمر من خلالي وتعبر عني وليست لفئة معينة. وقد شعرت وأنا بعيد عن بلدي أن دوري الآن قد حان لأصحح ما أستطيع، بعد أن غاب السلاح كلغة خوطبنا بها نحن سكان سوريا في عهد الأسد.

في الساعات الأولى لسقوط الأسد واستلام الجولاني، قررت الأردن وتركيا والعراق ولبنان إيقاف المعابر المشتركة بريًا مع سوريا. وهكذا كنت مع ثلاثة من أصدقائي ممن منعنا من العودة إلى سوريا والاحتفال بالنصر مع أهالينا. علينا الانتظار حتى تتوضح الأمور لنقرر العودة إلى سوريا التي شغلتنا الأيام التالية للسقوط في شكلها الجديد، أو الشكل الذي نرغب أن تكون به. لدينا خوف من طريق العودة، وقد سمعنا عن انتشار حالات الخطف والقتل بسبب الفوضى التي خلقها غياب السلطة. لم نرغب في المخاطرة، فانتظرنا في عمان لمدة يومين نتابع أخبار سوريا الجديدة. نفكر في أدوارنا الجديدة، وفي رفض الظلم، وحرية الرأي وغيرها الكثير من الهموم التي قررنا أننا سنخلق الحلول لها.

في النهاية، طِرنا إلى بيروت من مطار الملكة علياء ليلاً، وانتظرنا أن يطل الصباح كي نستطيع الدخول من معبر المصنع. في رأسي خوف من القادم، وعجالة للنظر في الوجوه التي حررت. علني أستطيع إمساك بقايا التحرير، ولو على شكل بسمة صغيرة من وجه غريب يسير في الشارع.

أمضيت في دمشق ثلاثة أيام أنتظر غياب الفوضى عن الطريق الذي أحفظه غيبًا. وعندما حانت لحظة السفر، وأنا أترك دمشق خلفي، بدأت أشعر أن الطريق قد تغير وأنه طريق جديد كليًا، مع أنه الطريق ذاته. وهذا ما أكده سائق السيارة الذي اعتدت السفر معه. وفي أعماقي، أخال أني رأيت سوريا كلها عبر هذا الطريق. سيارات محترقة، ملابس عسكرية متروكة من المعارك الأخيرة، ثوار ملثمون ممن جلبوا النصر والتحرير بسياراتهم المدهونة بالطين. تفاجأت بقلعة المرقب وأنها مطلة على نفس الطريق الذي قضيت عمري أنتقل عليه ولم أشاهدها أبدًا. تفاجأت بكل ما نظرت إليه. أنا الذي غبت عن بلاد الخراب لمدة عشرة أيام فقط. وعرفت كم كان الطاغية ثقيلًا ووجوده ثقيلًا ومخربًا. ليس فقط في تحويله الشوارع إلى الإنستغرام الخاص به وبصوره، بل في أفكاره ووحشيته وسجونه التي صبت الوقود على بلاد بقيت وستبقى بلادًا محبة وتنشر السلام.