الإرادة

سأكبر لأصبح عيناً ولساناً… اسمي أمل وهذه حكايتي:

كتابة: شيماء شريف

اسمي أمل.. وعمري عامان. والدي يقول لي دائماً بأنني عُكّازه. ربما لو لم يكن ضريراً لقال لي إنني نور عينيه. أمّا والدتي، فأنا لسانها الّذي ستنطق به في المستقبل عندما أبدأ أنا في الكلام، أنا أيضاً أذنها الّتي ستسمع بها عندما تكبر وتفقد النسبة الضئيلة من قدرتها على السّمع الّتي بقيت لها بعد أن أصابتها الحمّى عندما كانت لاتزال في نفس عمري (سنتين) وتسببت لها بفقدان جزئي في حاسة السّمع، وبشكل تلقائي فقدت النّطق كتبعة لفقدان السّمع.

منذ عدّة أشهر عدنا أنا وعائلتي إلى مدينتنا دير الزّور بعد نزوح طويل في مدينة الحسكة، البيت الّذي نسكن فيه يقع ضمن الأحياء التي تعرّضت للدمار بسبب الاشتباكات بين النّظام السّابق والفصائل المعارضة، بيتنا نفسه متضرر جداً، ولهذا يجب أن أكون حذرة عندما ألعب، لأنّ والدي لا يستطيع أن يراقبني ويمسكني في آخر لحظة كما يفعل معظم الآباء، ووالدتي لن تسمع صراخي إذا أصابني أيّ مكروه.

 إذا زرتَ بيتنا ستُلاحظ أنني أصرخ وأبكي أكثر من غيري من الأطفال، ليس لأنّ والدتي لا يمكنها سماعي أو التحدث معي فقط، بل لأنّ التواصل ضمن عائلتنا شبه معدوم بسبب إعاقة والدايّ. والدتي لا يمكنها الكلام، وعوضاً عن هذا يمكنها إصدار أصوات معيّنة مع رموز وإشارات طوّرتها بشكل شخصي، ويمكن لأخوالي وخالاتي فهمها والحديث معها بسلاسة كونهم تربوا معاً. هذه النّعمة حُرمت منها والدتي خلال سنوات الحرب بسبب نزوحها هي وإخوتها في مناطق متباعدة، أمّا والدي، ولأنّه ضرير، لا يمكنه رؤية شيء من إشارات أمّي. والتواصل بينهما عملية لا يمكن لطفولتي فهمها بعد، إذ يمكن لأبي نكز والدتي والكلام معها ببطء وهي بدورها تقرأ شفاهه، ولكنّ هذه الطّريقة لا يمكن أن تنقل أكثر من بعض الرسائل البسيطة مثل (أريد قهوة، أنا جائع، أنا أحبك، ابنتنا مشاكسة).

جميع ما سبق يجعل والدتي سريعة الغضب، أحياناً تصرخ في وجه أولاد الجيران إذا ضايقوني أو لوّثوا الأرض بعد أن تكون قد نظّفتها للتو، ولكن وعلى الرّغم من سرعة غضبها، أمّي طيبة القلب تعود لتطرق بابهم وتمازحهم وتلعب معهم وتقدّم لهم بعض الطّعام الّذي تعدّه لنا كلّ يوم. والدتي تذكرني بطائر الدّوري. وجهها المدوّر ورقبتها القصيرة، والتفاتة رأسها السّريعة إلى الجانبين لالتقاط أيّ حركة في جوارها، وقلبها الرقيق كقلب عصفور ولد في قفص، ولم يعرف غيره في حياته.

أنا الطفلة الرّابعة لوالديّ ولكنّ إخوتي الثلاثة الأكبر منّي ماتوا بعد ولادتهم مباشرة أو قبل موعد الولادة بفترة قصيرة، جميعهم ولدتهم أمّي في المستوصف التّابع لمخيّم السّد في الحسكة، وبسبب عدم قدرتها على الكلام ووصف الأعراض الّتي تشعر بها لم يتم تقديم الخدمة الطبيّة المناسبة لها. تصاب أمّي بسكر الحمل في كل مرة، ولم تكن تعرف كيف تشرح للقابلة أو الطبيبة ما يحدث معها. في النّهاية كان الجنين يولد ميّتاً. أنا نجوت من هذا المصير ربما، لأنّ والدتي ولدتني في المستشفى، ولأن والدايّ كانا قد انتقلا خلال شهور الحمل للعيش إلى جانب خالتي الّتي تفهم أمّي جيداً، وكانت تصطحبها إلى مراجعة الطبيب وعلّمتها كيف تأخذ حقن الأنسولين بنفسها.

دير الزور... المدينة المدمرة (تصوير شيماء شريف)

إعاقة أبي وأمي ليست وراثيّة، وكما أخبرتكم في البداية فوالدتي فقدت حاستيّ السمع والنطق نتيجة الحمّى الّتي أصابتها في طفولتها، أمّا والدي ففقد بصره بسبب شظيّة أصابت رأسه عام 2011 عندما كان جيش النّظام السّابق يتبادل القذائف مع الفصائل المعارضة، ولم يكن أحدٌ منهم يكترث للمدنيين الّذين كان عليهم أن يدفعوا الفاتورة ووالدي أحدهم. عندما اخترقت الشظيّة رأسه وقررت الاستقرار هناك، أخبره الطبيب بأنّه خلال فترة قصيرة إمّا سيفقد الذّاكرة، أو سيفقد النطق، أو سيفقد البصر، وهذا ما حدث في النهاية.

لو كانت إعاقة والديّ بسبب وراثي لكان احتمال الإعاقة عندي أيضاً سيكون كبيراً. يحدث هذا مع الكثير من الأطفال الّذين يولدون كثمرة لزواج رجل وامرأة من ذوي الإعاقة. هم في الغالب لم يختاروا بعضهم بقدر ما تمّ ترتيب هذا الزّواج من قبل المجتمع الّذي يستبعدهم من الزّواج بأشخاص “سليمين” ويضعهم ضمن إطار الشّخص العالة على نفسه وعلى غيره ويجب أن يجد شخصاً في نفس ظروفه يتقاسم معه الحياة. أحلم أن أكبر لأصبح عيناً ولساناً وأذناً. ليس فقط لوالديّ بل لكل المستضعفين والمنكوبين والمهمشين ممن تلاحقهم الحمى والقنابل والأحكام المسبقة. أحلم أن أكبر في مدينة غير مدمرة، وفي وطن استراح من الحروب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *