الإرادة

رحلة كرسي متحرك من اللاذقية إلى دمشق

خليل سرحيل

هناك فرق بين السنونو والحلزون وبين المشي والجر، ولكن هل يجب أن يوجد فارق بين إنسان من ذوي الإعاقة ومن ليس لديه إعاقة. يقول الجميع بأن لا فوارق بين البشر وأن الجميع يملكون الحقوق المتساوية، ولكن هناك فرق أيضاً بين القول والفعل، وهنا بيت القصيد.

أحمل أحلامي، وأفكر في مستقبلي الآتي الذي قررت به أن أكون، وأن أصبح صانع أفلام هاوي. لطالما تملكتني فكرة إثبات الذات، ذاتي التي اختبرت الإعاقة، وآمنت بأني سأحقق نفسي بها وأنا في عمر الـ 34. حلمت بصنع فيلم مستقل وفقير يتحدث عن الإعاقة، وبحثت عن فريق ليكمل معي المشروع كي أحقق أول منتج فني كامل وخاص بي فقط، وكان هذا أمراً صعباً للغاية، ولكن استطعت بطريقة ما المضي في هذا الدرب وأنا أجر كرسيي المتحرك.

كان عليّ الذهاب الى دمشق بسرعة، كي التقط حلمي وأحوله لحقيقة، وبدأت العوائق تتكثف أمامي وتستحيل إلى حقيقة. في كراج الانطلاق إلى دمشق، لا يوجد سوى باصات كبيرة الحجم، أبوابها ضيقة ويستحيل الصعود عليها، حتى عن طريق الحمل وهو شيء رفضته دوماً على اعتبار أني إنسان ولست كرتونة بضاعة أو قطعة مفروشات، فلم أحجز تذكرة وعدت إلى بيتي أبحث عن حل آخر.

سالت أصدقائي من ذوي الإعاقة عن طريقة سفرهم، واقترح أحدهم أن أسافر في سيارات خاصة تعمل بطريقة غير قانونية موجودة تحت جسر حلب وأعطاني رقم هاتف أحدهم.

في اتصالي معه، أكد لي أن السفر سيكون في الساعة الرابعة فجراً، ودعا لي بالشفاء عندما أخبرته بأني أحتاج الى مساحة لأضع كرسيي المتحرك في مؤخرة السيارة، وأخبرني بأن التكلفة 50 ألف ليرة، في حين أن تكلفة الباص الكبير إلى دمشق 7 آلاف ليرة لكن تفكيري في تحقيق حلمي منعني من مناقشة السعر معه، هذا عدا عن أزمة المحروقات التي أتمت عامها السابع في سورية.

أذكر أني لم أنم يومها… إحساسي بأن حلمي أصبح على وشك التحقق، أصابني بالأرق.. إنها مجرد ساعات حتى أشعر بوقع الحلم وأنتشي بتحقيقه.

في الرابعة فجراً، اتصلت بسائق السيارة المخالف وأخبرني بأن السفر تأجل حتى الساعة السادسة لعدم وجود مسافرين آخرين غيري. انتظرته حتى السادسة وكررت الاتصال وأخبرني أن السفر تأجل حتى الساعة الثامنة صباحاً لنفس السبب. والحقيقة أنه لا يوجد مسافر يدفع 50 ألف، وبإمكانه السفر ب 7 آلاف. هكذا، أقنعني بالانتظار حتى الثامنة أتأمل حقيبة السفر، وأتأكد من وجود الهارد وبقية مواد الفيلم لآخر مرة، وأطمئن على قسطرتي البولية.

في الساعة الثامنة، لم يدع لي بالشفاء لأنه لم يجب على اتصالي، ولا حتى رسائلي التي أتوسل له بها بأن يجيبني.

في الساعة العاشرة صباحاً، قطعت الأمل بالسفر معه، ولكني قررت الذهاب إلى تحت جسر حلب لأنتظر سائق مخالف غيره. لم أكن أعرف أنهم عصابة تمتهن هذه المهنة، لها مواعيد للسفر حسب الدور.

الحادية عشرة صباحاً، أنا وحقيبتي وأحلامي تحت جسر حلب، وأمامي سيارة حمراء تنتظر شيء ما، أبوابها مفتوحة وبداخلها شخص نائم.

اقتربت منه وأيقظته وأخبرته إن كان هو من كنت أتواصل معه، فأجاب نعم، واعتذر عن عدم إحضاري من قلب المدينة بحجة انعدام الوقود بسبب الازمة.

في هذا الوقت، لم أكن أفكر سوى بالوصول إلى دمشق، فقلت له بأن ما حصل ليس بمشكلة. دعا لي بالشفاء، وأخبرني أنه بدوره من ذوي الإعاقة، وأراني طرفه الصناعي. لم أدع له بالشفاء، لأن الحديد لا يمكن أن يتحول إلى لحم، ولو صلى من أجل ذلك الكون كله.

سألته عن موعد السفر، وقال بأنه متوقف لعدم وجود ركاب، إضافة إلى استحالة نقلي وسفري معه، لأني سآخذ كرسييّ معي، وهو يشغل مساحة لا يريد هدرها.

لم اشعر بالذلّ رغم كل ما حصل معي منذ الفجر حتى قال لي بأن السفر قد يلغى إلا إذا أخذ مبلغ 100 ألف عني و100 ألف عن كرسيي المتحرك لأنه سيأخذ مكان جرتين من الغاز المنزلي الذي يهربه من حمص إلى دمشق كل يوم بحجة السفر من اللاذقية لدمشق.

لم أدر لماذا اجتاحني غب تلك اللحظة إحساس بالذل والمهانة. هل لأن هذا الجشع صدر من شخص لديه إعاقة؟ أم أني اضطررت إلى اعتبار كرسيي راكب حقيقي ودفعت عني وعنها؟

فكرت قليلاً بالتراجع، لكني أعرف أني إذا تراجعت سيتوقف العمل على الفيلم لخمسة أشهر على الأقل، وهذا مالا أريده.

دخلي محدود للغاية، ومرتبي الشهري لا يساوي 10 دولار، وقد استدنت من أخي الصغير مبلغاً للطوارئ، ولم يخطر في بالي أن سفري سيتحول إلى كارثة.

الساعة الثانية بعد الظهر. أنا وحقيبتي وأحلامي بجانب السائق وكرسيي المتحرك وحيداً في المؤخرة، وفي الخلف كراسي فارغة.

الساعة الثالثة، أتت امرأة مع طفليها، ودار نقاش طويل حول التكلفة، فالسائق صاحب الطرف الصناعي أراد منها أن تدفع كرسي للرضيع الذي بين يديها فرفضت ذلك، كما رفضت دفع 100 ألف مثلما دفعت أنا ودفع كرسيي.

الساعة الثالثة والنصف، أرسل السائق صاحب الطرف الصناعي أحد زملائه الذي أخبرنا أنا والمرأة بأنه يريد مبلغ 20 ألف كي ينطلق.

ثار جنون المرأة، وأخذت تفكر بإلغاء السفر، وهذا ما جعلني أتعرق، فأنا رغم كل هذا الذل والمهانة لا زلت أريد الوصول إلى دمشق.

لكن السائق صاحب الطرف الصناعي شعر بأنه لم يعد هناك طريقة للابتزاز لم يجربها، فبدأت الرحلة.

لم تدع لي أمي بالشفاء مثلما دعا لي السائق صاحب الطرف الصناعي. هذا الدعاء الذي أفهمه سخرية واستهزاء بحالي وتنمر، فأي دعاء سيقبل وأنا قد دفعت ثمن الكرسي الذي أتنقل به.

تخيل الأمر، أن يسافر أحدهم من غير إعاقة، ويدفع تكلفة شخصين أو يدفع ثمن ركوب حذائه أو أن يحتسب أن قدميه شخص آخر ويدفع عنهم.

في حمص توقف السائق عند القرى المحيطة بمصفاة النفط والتي تقع على أوتوستراد اللاذقية دمشق، وبدأ بنقل جرار الغاز المعبأة الذي يريد تهريبها إلى دمشق، فأسعار الغاز هناك غالية بسبب أزمة الطاقة.

وضع الجرار في المؤخرة، وبقيت واحدة لم يتسع لها مكان، فجاء اليّ يسب ويشتم بسبب السفر وصعوبة هذه المهنة، وأخبرني بأن الكرسي تعيق تهريبه للغاز وأنه سيضعها بجانب المرأة التي رفضت ذلك واخبرته بأنها دفعت مقعدين وليس مقعداً واحداً. غاب قليلا وعاد مع جرة طالبا مني أن أسحب مقعدي إلى الأمام ليتمكن من وضعها خلفي كي لا تظهر للحواجز الأمنية حسب ما قاله.

وعندما اكتمل التحميل، اشترى زجاجتي خمر رخيص ليحتفل بالغلة الوفيرة التي حققها خلال وقت قصير.

وبدأ يشرح لي فلسفته عن الحياة، وكيف على الإنسان أن يتغلب على الصعاب، وحكى لي كيف يضطر للعمل ليتمكن من الصرف على زوجتيه اللتين لا تعرفان بعضهما لأنه حربوق كما وصف نفسه. وبينما أنا أشعر بالمهانة والذل، أسمعه يحدث زوجته ويطلب منها أن تسخن مياه الاستحمام.

هذا الذل خلق في داخلي غضباً لا أستطيع تعريفه. ربما يشابه الغضب الذي كان موجوداً لدى الأمريكان الأفارقة في ثورتهم ضد العنصرية. فكرت بأني على استعداد تام للموت الآن، ولسبب ما لم يمنعني التفكير في الفيلم من التفكير في ضرب السائق صاحب الطرف الصناعي وهو سكران، وأنتزع المقود من يده لأقتله وأموت معه حتى لا يعيش هذه التجربة أحد غيري، ولكن ما منعني من هذا التصرف هو وجود المرأة وأطفالها فتراجعت لكن إحساسي بالكره بدأ يتفاقم.

 

هل أكره نفسي لأني أعيش على كرسي متحرك أم أكره السائق صاحب الطرف الصناعي الذي لم يوفر فرصة لابتزازي مادياً ونفسياً رغم كل القواسم التي تجمعني معه أم أكره وجودي هنا وهويتي السورية والقوانين التي تحيا في جلسات مجلس الشعب وأفواه الوزراء أصحاب الأسنان ناصعة البياض.

التاسعة مساءً. أنا وحقيبتي وأحلامي في دمشق في غرفتي في الفندق. تأخرت كل مواعيدي بسبب السفر، عدا أن غضبي هذا آذاني فأصبحت أتبول دماً لسبب لا أعرفه.

بكيت وتناولت عشائي ونمت منهكاً كحصان جريح.

بعد أن أتممت عملي، عدت بنفس الطريقة مع شخص آخر لا يملك قدماً صناعية ولم يدع لي بالشفاء ولم يأخذ مني سوى 40 ألف وهي التسعيرة المتعارف عليها في ذلك الوقت، وأوصلني إلى مكان إقامتي وعندما عرضت عليه إكرامية رفضها.

في اللاذقية عدت بدين كبير لأخي، وتجربة صعبة مع الإعاقة وبسبب الإعاقة ولسخرية القدر كانت هذه التجربة من أجل الإعاقة.