الإرادة

رؤى.. التي نالت الحرب من صحتها وسكينتها: لو أمكنني أن أمحو كل ما حصل بضربة ريشة

دمشق- ديالا جمعة

قذائف الحرب المشطورة بين قلبين وجناحين، ورحم وصديق وبيت، تطفئ السكينة على مرأى أشلاء الذكريات، وعلى مسامع صلوات خرجت ساجدة تحتمي بما تبقى من كرامة إنسان. وطفل يلفظ آخر رؤاه علّها تنقلب رؤىً تأخذه من حالك الحروب إلى بهاء السلام، وفتاة تنادي أبيها ليستفيق من غيبوبته على قارعة الطريق، والكثير الكثير من الآلام المختبئة في العيون وبين الأنامل المرتجفة والشفاه الباكية التي تخبرنا بأحداث تلك المرحلة.

رؤى؛ طفلة كباقي الطفلات، ولدت صيف 2008 بصحة جيدة، ولأبوين وهبا حياتهما لإسعاد طفلتهما وأختها الوحيدة، لكن شاءت ظروف الحرب أن تكبر رؤى تحت نير الاقتتال وأن ينال صوت الصواريخ والقذائف وإطلاق النار ورعب الحرب من صحتها ومن سكينتها ومن طفولتها.

تحدثنا السيدة أم لجين والدة رؤى عن معاناتها مع مرض رؤى التي تسببت به الحرب، وتبدأ الحكاية في جوبر حيث كانوا يسكنون وفي بداية العام الدراسي تشرين 2012 عندما بدأت معالم الحرب وبدأت أصوات القذائف البعيدة في حمورية تنذرهم بالقادم.

تقول “أم لجين”: “لم نصدق حينها أننا سنقع فريسة هذا الاقتتال وهذا الضلال الذي أفقدنا بيوتنا وأمننا وراحتنا وصحتنا، وكاد أن يفقدنا حياتنا وحياة أولادنا، كنا نسمع عن الأحداث ونخاف أن يطالنا ظلم، ونخاف من أنه سيقتحم بيوتنا ذات يوم، ولكننا نمني النفس بالسلام”.

وتشرح “في تلك الأيام كان عمر رؤى أربع سنوات وكان بيتنا يقع في المدى بين مسلحي المعارضة من حمورية ومدفعية الجيش السوري، ولكِ أن تتخيلين كمية الأصوات والرعب الذي تعرضت له طفلتي، كانت تستيقظ ليلا عند مرور الصواريخ والقذائف فوقنا بوجه شديد الزرقة وتصرخ رعبا وبطريقة يغيب عنها الوعي، ولم تكن تنفع معها تهدئتي أو احتضاني، بل تبقى على هذه الحال إلى حين زوال الأصوات، ولكن ساحة الحرب بدأت بالامتداد وبعد شهر فقط امتنعنا عن إرسال أطفالنا المدارس بطلب من مدراء المدارس، ولزمنا بيوتنا مترقبين القادم الأفضل.”

تضيف: “بعد فترة من انتظار الأفضل بدأ الأسوأ بالحدوث وبدأت القذائف تصل إلى حاراتنا وبيوتنا وكل يومين نشيّع شهداء مدنيين من جيراننا وأصدقائنا، ما زاد من تفاعل ابنتي المرضيّ مع الأحداث؛ فمع كل صرخة امرأة فقدت طفلا أو زوجة فقدت زوجها تصاب ابنتي بحالة من الهلع. أذكر تلك الليلة التي أفنى بها صاروخ عائلة كاملة نازحة من نيران حمورية تحتمي داخل الحمام، في ذلك اليوم عندما سمعنا الصوت هرعت للخارج حافية لألحق بزوجي الذي ظننته مات إثر الصاروخ ولكنني عدت متأبطة ذراعه تحت كم هائل من الغبار الذي ألغى معالم وجهه تقريبا وألغى معه تعابير وجه رؤى”.

تتابع “بقينا على هذه الحال من الرعب ثلاثة أشهر عانت ابنتي فيها من عوارض الشدة النفسية كما وصفها الطبيب كالتبول اللاإرادي والتأتأة والشرود، وعدم التجاوب للطلبات، والبكاء الشديد عند سماع أي صوت مرتفع حتى لو كان صوت موسيقا. بعد هذه الأشهر الثلاث في شباط 2013 وبعد اشتداد المعركة بين الطرفين ارتأينا أن لا حياة ستعود قريبا إلى جوبر ولا أمل في الأمان القريب خصوصا أن الجيش السوري فتح معبرا لعبور من يريد النزوح إلى دمشق من واقع الحرب في جوبر، فشددنا الرحال انا وزوجي وأخي وابنتاي.”

 

تستذكر أم لجين ذلك اليوم بكثير من التأثر: “كان الوقت صباحا حوالي الساعة السابعة وكان الجو باردا جامدا شاحبا كلون الموتى، أشد على يد ابنتي لجين ذات السبعة أعوام كي لا تقع وانا أركض وهي تحاول مجاراة خطواتي، زوجي كان يحمل كتب ابنتي وحقيبة ملابسنا -تستطرد مبتسمة لا أعرف بماذا كنا نفكر لقد فضلنا كتب ابنتي المدرسية رغم ثقلها على الكثير من الأشياء التي احتجناها لاحقا ربما لقناعتنا أننا سنعود قريبا- أما رؤى فكانت مكورة في حضن أخي تهتز قدماها علوا وانخفاضا مع حركته السريعة في الجري. لا أذكر أننا توقفنا لثانية واحدة لمدة عشرين دقيقة من الركض، فكلما يفكر أحد منا أننا تعبنا ويجب أن نستريح ترشقنا حفنة تراب جراء قذيفة كصفعة توقظنا من هذا التفكير الأحمق، مصحوبة بصراخ طفلة لأبيها أن يستفيق، أو أنين مكتوم يثنينا عن التوقف، ولا أذكر أيضا أن صوت رؤى خفتَ لو لثانية عن الصراخ لدرجة أنني لم أعد أسمع إلا صوتها من بين أصوات العشرات مثلنا المثقلين بحلم النجاة. على تلك الطريق وتحت رصاص وقذائف الموت جل ما كنت أريده أن أصل لحاجز الجيش لكي احتضن طفلتي لا لتصمت بل لأصرخ معها”.

 

“بعد وصولي لحضن ابنتي هنئت الحياة واستقرينا في بيت أختي في التل وذهبت رؤى إلى الروضة وظننت أنها تعافت فلقد بدأت تستغرق في النوم حتى أن الأصوات القوية لا توقظها لكنها ومن أسف هذه ليست علامة صحة نفسية كما قال لي الطبيب بعد عدة سنوات” تقول الأم.

 

وتضيف: “بعد سنتي الاستقرار في التل ما لبث أن اهتز وانتكست ابنتي نفسيا وبدأت الصراعات بين الجيش الحر وداعش في الأحياء وعلى مرأى من أطفالنا، جثث القتلى بين الطرفين ملقاة على الطرق. كانت طفلتاي تركضان نحوي بصوت مخنوق يوصلهما والد صديقتهما إثر دخول عناصر من داعش مدججين بالأسلحة إلى المدرسة وهما تبكيان وتقولان “كان معهم قنابل، وهددوا المعلمين والمعلمات وهددوا المديرة وقالوا لها إن صوتها عورة، وفي الطريق قتلوا رجلا أمامنا”، أيقنت حينها أن لي مشوار طويل مع علاج ابنتي .

 

لم تكن حياة العائلة في السنوات الخمس اللاحقة مختلفة عن حياتهم في تلك الأشهر في جوبر، “ولم يكن صوت القذائف هنا يختلف تأثيره على ابنتي بل أصبح منكّهاً بأصوات الطيران والصواريخ، وعلى هذا المنوال تراجع أداء ابنتي الجسدي، أصبح عندها مشاكل بالاستيعاب، ومشاكل بالقراءة والكتابة وبالتواصل الكلامي” كما تروي أمها، وعند مراجعة الطبيب بعد فك الحصار عن التل وشرح القصة المرضية للطبيب كاملة كان توصيف حالة رؤى على ضوء التحاليل وتخطيط الدماغ كالتالي: شدة نفسية أدت الى شحنات كهربائية زائدة بالدماغ ونقص أكسجة دماغية خفيف، هو المسؤول عن التراجع في الأداء العام. وصف الطبيب لها مجموعة من الأدوية العصبية والنفسية ونصح بالمتابعة النفسية كوجود دعم نفسي مختص، وبنشاط فيزيائي كالرياضة.

 

“بعد الالتزام بالأدوية لاحظت الفرق بمدى التواصل وبتحسن النطق والمحاكمة العقلية” وفقاً لما تذكره الأم، لكن ضبط نوبات الغضب والصراخ والعصبية لم يستطع الدواء تحسينه، “أما عن المشاكل التي واجهتنا بعد أخذ الأدوية فكانت في تأمين الأدوية بحد ذاتها، فعلى خلفية الحصار لم نستطع توفير بعض الأدوية الموصوفة كما لم نستطع توفير جلسات دعم نفسي اختصاصي” كما تقول الأم.

 

عند سؤال رؤى عن ذكريات تلك المرحلة تقول “لا أتذكر شيئا.. كما أنني لا أريد أن أتذكر، الحمدالله أنا الآن مع أهلي ولا يوجد قذائف وأصوات ترعبني”.

رؤى التي تعشق الرسم والمطالعة تتمنى لو تستطيع أن تمحو كل ما حصل بضربة ريشة ألوان أو بعصا سحرية من حكايات ألف ليلة وليلة، وتعود إلى بيتها وحضن جدتها، وتعمر جوبر بالحياة كما كانت، وتعلو أصوات الزغاريد وإيقاع زفة العريس “العراضة الشامية” التي ما زالت تذكرها، ليختفي كل صوت نشاز أوقف تدفق الحياة ذات يوم.