الإرادة

دير الزور: الشهادات المزورة ما زالت تجد فرص عمل

منصة إرادة: شيماء شريف

قبل حوالي شهر، اهتز ريف دير الزور، على وقع مأساة جديدة: وفاة سيدة نتيجة خطأ طبي فادح. القصة، التي لم تكن حادثاً استثنائياً، أكدها عاملون من داخل المستشفى الأضخم في ريف دير الزور الغربي، وانتهت بمساع حثيثة من المنظمة الإنسانيّة الدولية الدّاعمة لهذه المستشفى للتدخل ومحاولة طي القضية الّتي لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة على ما يبدو.

وفقاً لممرض يعمل في المستشفى، يُدعى أكرم (اسم مستعار)، عانت السيدة لساعات قاسية جداً من المخاض. أصرت القابلة على الولادة الطبيعية رغم أن ذلك كان مستحيلاً لأسباب طبية، مما أدى إلى نزيف حاد وفقدان الوعي. نُقلت السيدة إلى غرفة العمليات، ثم توفيت بعد فترة قصيرة، وكانت أحشاؤها “ممزقة حرفياً” حسب وصف الممرض. ورغم أن الطبيب الذي تدخل في اللحظات الأخيرة لإنقاذ حياتها أقر بأن سبب الوفاة هو “الخطأ في تقييم الحالة من قبل القابلة”، إلا أنه أخبر ذوي السيدة بأن الوفاة “قضاء وقدر”.

معظم مشافي دير الزور متوقفة عن العمل

لم تكن هذه الحادثة الأولى؛ بل هي الحالة الثالثة التي تخرج إلى الرأي العام خلال عام 2025. وقد سارعت المنظمة الإنسانية الدولية الداعمة للمستشفى إلى “لملمة الفضيحة”، مما يشير إلى أن مثل هذه الحوادث ليست استثناءً.  طالب زوج السيدة بتعويض قدره 6000 دولار من المستشفى، لكن الإدارة رفضت طلبه واعتبرته “ابتزازاً”، مما دفعه لتقديم شكوى لإدارة المنظمة في أربيل، التي أوقفت القابلة عن العمل بشكل نهائي، لكن دون فتح تحقيق شامل.

هذه الحوادث المتكررة أثارت غضباً واسعاً بين السكان المحليين والنشطاء المدنيين الذين تحدثوا عن “الإهمال الطبي والاستهتار بأرواح الناس”، بالإضافة إلى ضرورة فتح ملف العاملين في المجال الطّبي وفق شهادات مزوّرة مطالبين بتصحيح مسار عمل المنظمات التي من المفترض أن تكون إلى جانب النّاس أو على الأقل لا تتسبب بالمزيد من الأذى لهم.

الشهادات المزورة: خطر يهدد القطاع الصحي

تتجاوز هذه المشكلة الأخطاء الفردية لتصل إلى جذور القطاع الصحي، حيث تنتشر ظاهرة العمل بالشهادات المزورة في المنطقة الشرقية. عدد كبير من الصيدليات في ريف دير الزور الغربي، على سبيل المثال، يديرها أشخاص حصلوا على شهادات مزورة، وحصلوا معها على لقب الممرض، القابلة، الصيدلي والطبيب أحياناً.

تؤكد ابتسام الراغب، خريجة معهد صحي وممرضة تعمل في أحد مراكز سوء التغذية المتنقلة، أن “عشرات الحالات من أطفال سوء التغذية مرضوا نتيجة تطفّل هؤلاء البائعين على تخصص الصيدلة”. وتضرب مثالاً بحليب “المائدة” الذي يُباع للرضع، رغم أنه غيرُ مخصص لهم وممنوعٌ على الأطفال دون العام الواحد. ولكون الصيدلاني مزيّف ولم يحصل على الشّهادة بعد سنوات من الدّراسة فجميع أنواع الحليب المجفف بالنسبة إليه متشابهة، والضّحيّة هم الأطفال الّذين عليهم أن يمضوا أيّاماً في المستشفى وربما لن يكون التعافي بشكل كامل وسيحتفظون بجزء من أعراض سوء التّغذية معهم لسنوات بعد تلقيهم العلاج.

سوق تزوير الشهادات ازدهر منذ عشر سنوات

من أين تأتي هذه الشهادات؟

ازدهر سوق الشهادات المزورة في ريف دير الزور خلال السنوات الأولى من الحرب السورية، بعد سرقة أختام وأوراق رسمية من مؤسسات الدولة في مدينة دير الزور. كان من السهل حينها الحصول على جواز سفر مزور أو شهادة في الهندسة أو التمريض ونظراً إلى الإقبال على هذه الشّهادات والأوراق المزوّرة فقد توسّع العمل فيها ليشمل المزيد من التّخصصات، ولتصبح المدينة الأشهر في هذا المجال مدينة الشحيل في الريف الشرقي لدير الزور التي باتت تُعرف بـ”الشحيل univercity” تهكماً.

حاولت حكومة النظام السابق تجديد وتغيير بعض الأختام، مثل أختام الهجرة والجوازات، لإحباط استخدام الأختام القديمة. ومع ذلك، لم تتمكن من السيطرة على ظاهرة الشهادات المزورة بسبب خروج مناطق ريف دير الزور عن سيطرتها، وبقائها تحت سيطرة فصائل مختلفة مثل الجيش الحر، جبهة النصرة، داعش، وأخيراً الإدارة الذاتية الكردية، وقد استفادت الفصائل المسلحة، بما في ذلك مجموعات الدفاع المدني التابعة للنظام، مالياً من تجارة الشهادات. 

تسيطر الحكومة السورية على الجزء الغربي وتسيطر قوات سوريا على الشرقي

نظام صحي متصدع:

تُظهر الأزمة في دير الزور صورة أوسع لنظام صحي منهك. فالمحافظة مقسمة جيوسياسياً، حيث تسيطر الحكومة السورية على الجزء الغربي وقسد على الجزء الشرقي. هذا التقسيم يعيق التنسيق وتقديم الرعاية الصحية الفعالة. المستشفى الوحيد العامل في مدينة دير الزور يخدم حوالي 1.5 مليون شخص، وهو متضرر بشدة ويعاني من نقص حاد في الأطباء والمعدات الأساسية.  قبل الأزمة، كانت دير الزور تضم ثلاثة مستشفيات عامة، دُمر اثنان منها بشكل الكامل.  

النقص في الكوادر الطبية المؤهلة منتشر، وتتفاقم المشكلة بسبب الرواتب المتدنية للغاية، التي قد تصل إلى 120 دولاراً شهرياً للأطباء في بعض المناطق. هذا يدفع المهنيين المؤهلين إلى الهجرة، مما يترك فراغاً يملؤه أفرادٌ غير مؤهلين. كما تعاني المرافق الصحية من نقص حاد في الأدوية والمستلزمات، مثل أجهزة غسيل الكلى والحاضنات، التي أدى نقصها إلى وفيات بين الرضع.  

أدى غياب الرقابة لخلق بيئة صعبة وغير منسقة لتقديم الرعاية الصحية

تآكل الثقة

تُعد قضية توظيف حاملي الشهادات المزورة في منظمات دولية تدعي الشفافية والمساءلة أمراً صادماً، خاصة عندما يكون خريجو الجامعات والمعاهد عاطلين عن العمل.

 تؤكد هند محمد الخلف، ناشطة في المجتمع المدني، أنه “لا يمكن تبرير تغاضي هذه المنظمّات عن بعض موظفيها الّذين زوّروا قبل أكثر من ثماني سنوات شهاداتهم الجامعيّة وبعضها طبية، ” هذا التجاوز لا يؤثر على جودة الخدمات فقط، بل يعرض حياة المستفيدين للخطر أيضاً.

تتفاقم المشكلة بسبب “شبكات الفساد” التي تضم مسؤولي التوظيف وشخصيات ذات نفوذ عشائري أو في المجالس المحلية، والذين يوظفون أقاربهم ومعارفهم أو أشخاصاً مقابل جزء من الراتب، على حساب مصلحة السكان وحياتهم، فيما هنالك الكثير من خريجي الجامعات والمعاهد لا يجدون فرصة عمل في المنظّمات الدولية العاملة في المنطقة الشرقية بسبب شبكات الفساد والمحسوبية.

النفوذ العشائري متجذر بعمق في دير الزور، حيث يمارس القادة التقليديون نفوذاً كبيراً على الشؤون المحلية، بما في ذلك فرص العمل، ولكن أن يتم توظيف أشخاص قاموا بالتحايل والتّغاضي عنهم في قطّاع الصّحة فهذا تجاوز لابد من ملاحقته والضّغط على السّلطات لمتابعته وإيقاف أي جهة تستهتر في حياة النّاس.

وتعمل المنظمات الإنسانية في “بيئة عالية المخاطر للغاية” في سوريا، مما يجعلها عرضة للأنشطة غير المشروعة. وقد كشفت تحقيقات عن مخططات واسعة للتلاعب بالمناقصات والرشوة في برامج المساعدات. حتى مكتب منظمة الصحة العالمية في سوريا واجه اتهامات خطيرة بالفساد وسوء الإدارة، بما في ذلك سوء إدارة ملايين الدولارات وتوظيف أقارب غير أكفاء لمسؤولين.

إن الأزمة الإنسانية في سوريا عميقة، حيث يعتمد أكثر من 1.6 مليون شخص على المساعدات، ويعيش 90% تحت خط الفقر. الأخطاء الطبية والفساد في القطاع الصحي ليست مشاكل معزولة، بل هي أعراض لانهيار أوسع يتطلب نهجاً شاملاً، يتجاوز التدخلات السطحية. فقط من خلال المساءلة الحقيقية والإصلاح الشامل، يمكن استعادة الثقة وضمان أن الرعاية الصحية والمساعدات الإنسانية تصل إلى من هم في أمس الحاجة إليها، بعيداً عن شبكات الفساد والإهمال التي تواصل حصد الأرواح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *