عبد الكريم عمرين
صرت أهذي بكلمة شلل، أكررها، وأنا أتأمل الطريق من دمشق إلى حمص، شلل دماغي، يا رب الملكوت، لكن لماذا؟ لماذا ابني فادي؟ بل لماذا هذا المرض؟ هذه الفجيعة؟ كان الدرب طويلاً إلى حمص، صوت صباح فخري يصدح في البولمان: قل للمليحة في الخمار الأسود. ماذا فعلت بناسك متعبد، إلى جانب صوت محرك مركبتنا، يمر المضيف، فيقدم لي الماء، ويضع لي قطعة سكاكر، وحين يلاحظ فادي في حضني، يضع قطعة أخرى إضافية قائلاً: هذه لهذا الشاب الجميل. أشحت بوجهي وأنا أحدق في الطريق، دون كلمة شكراً لمضيف البولمان، ها هو معسكر التجمع في النبك للملتحقين حديثاً في الخدمة الإلزامية، هنا، جئت ذات صيف، أخذوا مني هويتي المدنية، وسجلوا بعض المعلومات والبيانات، ودفعوني بقسوة إلى حلاق في العراء، جلست على كرسي حديدي مخلَّع، وبدأت آلة الحلاقة تجز شعر رأسي، صرت أصلع تماماً، وملأ الشعر وجهي وشفتي وثيابي، ضحك الحلاق ذو الوجه المليء بحب الشباب، وبان سنه الذهبي وبجانبه سن منخور أسود…
قال لي ساخراً بلهجة بدوية: يا ول هالحين صرت زْلِمَة، كنت عجي نعنوع … ودفعني فوقعت على الأرض، فضحك طويلاً، ثم بلهجة آمرة صرخ بالطابور المصطف للحلاقة: اللي بعده.
عند استراحات الطريق الكثيرة، وقفت سيارات شتى ذاهبة أو آيبة من دمشق أو حمص، نزل ركابها منها، لتناول شطائر اللحم بالعجين، أو تناول الشاي، أو لشراء النمّورة أو الكعك، لم أنزل من مركبتنا، جلست أتأمل فادي الذي فتح عينيه وابتسم لي ابتسامة خفيفة ثم استسلم للنوم، يا رب السموات السبع، أنت تبتسم لي يا بابا؟ تشكرني على اهتمامي بك، ومرافقتك في مرضك؟! أضمه وأقبله، ثم أبكي وأعاتبه في سري: أنا لا أستحق ابتسامتك يا ولدي، بل أستحق بصقة كبيرة منك، أنا الذي جئت بك إلى هذه الدنيا القذرة، أنا الذي كنت سبباً في مرضك، وأي مرض؟ مرض دائم سيرافقك العمر كله. لا أدري كيف مرَّ الوقت سريعاً، وأنا أعاتب فادي، وأعتذر منه، ثم أتخيل مآلات مرضه، أحياناً كنت أتخيله مقعداً أشبه بجثة، وأحياناً أتخيل أن شفاءه قاب قوسين أو أدنى، بل مؤكد، ها هو يلعب كرة القدم في فريق منتخب حمص، بل منتخب سورية، لا ها هو في الجامعة يُدرِّس الفلسفة وعلم النفس كأستاذ، ويحضر مؤتمرات وندوات عالمية، يلقي فيها المحاضرات والأبحاث، لا لا فادي سيكون سياسياً بارزاً في سورية، سيكون وزيراً للخارجية، يخوض المعارك والمباحثات السياسية بجدارة ذئب لطيف حاذق، فجأة جاء مساعد السائق، ربت على كتفي وقال: وصلنا حمص يا أستاذ ونزل كل الركاب، هل أنت بحاجة لمساعدة ما؟ اعتذرت للمعاون، نزلت من الحافلة، ركبت تكسي.. سائقها شاب قصير شعره أسود فاحم مرتد إلى الوراء، قلت له: حي القصور من فضلك.
مرّت شهور قليلة وأنا وزوجتي، لا نصدق أن فادي سيتلبسه هذا المرض طوال العمر، بل على العكس تماماً، كنّا نعتقد، أو نتوهم، أن فادي سيشفى، فهو ظاهراً ليس لديه أية علامات للمرض، فهو يأكل جيداً، ويلتهم ثدي أمه بشراهة، ويبتسم، والمنعكسات العصبية في باطن كفيه وقدميه سليمة، لكن رؤيته للأشياء لم تكن مستجابة دائماً، وثمة ضمور بسيط في قياس محيط الجمجمة بسبب التحام نصفي جمجمته أسرع من المعايير الطبيعية. أطباء العيون أكدوا لنا أن ثمة شحوب في حليمة العصب البصري، وليس ثمة علاج أو دواء لإزالة هذا الشحوب. بدأت أقرأ كتاب هاريسون في الطب وهو كتاب يدرسه طلاب كلية الطب في الجامعات السورية، كما قرأت كتاب أمراض الأطفال، وهو كتاب أصدرته وترجمته عن الروسية دار مير السوفييتية. رعب هائل تملكنا، بل ثمة انكسار اجتماعي بدأنا نشعر به، وسط عبارات الأطباء والأقرباء والأصدقاء، عبارات متناقضة، مصدرها وعي وثقافة القائل بها، عبارات كالموج تدفعنا للغرق حيناً فنستسلم للقدر وللعاصفة، أو عبارات متخمة بالأمل، فنرتاح لسويعات، ثم يتناهبنا الخوف والقلق والسواد، وتولدت الشحناء بيني وبين زوجتي، تسيّدتها كلمة ” لو” الملعونة، لو التي قيل إنها تفتح عمل الشيطان، فلو لم ننتقل للسكنى في حمص لما حدث ما حدث، ولو لم نكن نعمل في الوسط الطبي والصيدلاني، لما اهتم بنا طبيب الإسعاف، وعمل على تدبير القثطرة البولية ليهدأ فادي ويتوقف عن البكاء، ولو لم تكن القثطرة مجرثمة، لما حدث ما حدث، ولو حملنا فادي إلى دمشق فوراً لمعالجته لما حدث ما حدث… وألف لو تتكرر على ألسنتنا وألسنة الأقرباء والأصدقاء، ثم.. ثم إن الانكسار والحيرة والعجز والقنوط والألم، جعلوا منّا بشراً يسهل انقيادهم، فصدقنا كل الآراء والنصائح التي قيلت لنا، حتى الرأي الذي قيل لنا من بعض الأقرباء، وفحواه أن فادي يسكنه جني، وأن مرضه سببه الحسد، وأن لا علاج له سوى بعض التمائم وقراءة آيات معينة من القرآن الكريم، وأن شحوب العصب البصري علاجه التبخير بأعشاب الشيح والحرمل. الدهشة عقدت ألسنتنا، نحن الذين نؤمن بالعلمانية وننتمي إلى اليسار السياسي.
حين يسكنك العجز والحيرة، وتُسد الأبواب في وجهك، وتصبح روحك على قاب قوسين أو أدنى من الرحيل، تتشبث بقشة أمامك، قشة واهية وفاسدة سوداء متهتكة، لكن ليس أمامك سوى التمسك بها، وكانت أول قشة صادفت غرقنا، هي أن يُقرأ القرآن فوق رأس فادي من قبل شيخة جليلة معتبرة ومحترمة وذات صيت واسع في أوساط المؤمنين، وتسكن قرب مسجد خالد بن الوليد، فحملناه إليها فقررت بوجه جامد ومصمت: هاتوه كل يوم صباحاً عند انبلاج الصبح، سأقرأ ويدي فوق رأسه، ما تيسر لي من آيات الذكر الحكيم، أما عن عينيه فسأعطيكم نبات الشيح والحرمل اليابس لتقوموا بتبخير وجهه وخصوصاً عند العينين فور وصولكم إلى بيتكم بعد أن أقرأ له.
كالمجانين صدقنا ما قيل لنا، ونفذنا تعليمات الشيخة الجليلة، كالذاهب إلى المشنقة وهو يأمل بقرار عفو عن تنفيذ عقوبته بالموت.. لكن هيهات.. وقررنا بعد فشل وخيبات التوقف عن هذا الدجل والتخلف.. لقد قررنا أن نذهب إلى الأردن، ففي عمان طب متقدم جداً، وأجهزة تشخيصية حديثة جداً، وفي عمان كان لنا حكاية أخرى…
يتبع…