عبد الكريم عمرين
لك أنتو شو؟ لشو واقفين هون؟ أنتم أمن؟ أمن يعني بس لتعتقلوا الناس؟ لك ابني عم يموت، بدو دم، الدم معي بس بدي مخبر لأعمل لأكياس الدم تصالب، ساعدوني، دلوني أين يقع المخبر؟ لم يسألني أحدكم ماذا تريد أيها الأخ المواطن، فقط كنتم تتفحصون نوع السيارة التي أقودها، ورقم لوحتها وتتفرسون في وجهي وتفاصيله، هل لهذا الوجه لحية، هل فوق الرأس طاقية أو شماخ؟ هل هذا الذي يقود السيارة مرتبك؟ قلق؟ هل يبحث عن هدف ما؟ هل يريد تفجير مبنى ما؟ أم يريد تفجيركم؟ لك أنا مواطن، وأنتم كذلك، مهمتكم أمنية وأحترم عملكم ومهمتكم وسهركم هنا، لكن الأمن كلمة واسعة، الأمن تعني أن تمنحوا المواطنين أمنهم الصحي أيضاً.
هكذا خاطبت رجال الأمن في ساحة السبع بحرات والليل يكاد يلفظ أنفاسه، كان صدى صراخي يعطيني بعض القوة، وكأن مصدر هذا الصدى هو السماوات السبع، وصوت خرير مياه البحيرات السبع وتبدّل ألوان الإضاءة في الساحة، يمنح الماء المتوثب إلى أعلى ثم المتساقط، ثم المنعكس على وجوه رجال الأمن يجعل من هذه الصورة مشهداً من أفلام الأكشن، تقدم إلي رجل أسمر جداً بعضلات مفتولة ووجه متجهم وعينين يتطاير منهما الشرر، وشاربين يتراقصان غضباً وصرخ في وجهي: شو أنت عم تلقي علينا محاضرات؟ اقترب وعرف عن نفسك وهات هويتك، كاد رأسي أن ينفجر، وعرفت أن الأمور ستزداد سوءاً، ربما سيحملونني إلى بيت خالتي وأبقى في ضيافتهم وأخضع لاستجواب ممض، كادت الدنيا أن تدور بي، صرت أرى فادي جثة، أنا أب سيء لم يستطع تأمين بضعة أكياس من الدم لإنقاذ ولده، عصبيتي هي السبب، لساني وصراخي بل اتهام رجال الأمن بالتقصير تجاهي كمواطن سيجعل من فادي قريب جداً من الموت، وبلحظات قررت: ليكن ما يكون، لن أعرف عن نفسي، ولن اقدم هويتي، بهدوء وغضب مكتوم، أجبت ذي العضلات المفتولة وأنا أتقدم نحوه كرجل آلي، أبعدت سلاحه المصوب نحوي قلت له: لن أقدم نفسي ولن أبرز هويتي لك، أريد أن تدلني على المخبر، تقدم مني الرجل الضخم يريد أن يمسك بي من ياقة قميصي، هنا جاء صوت من السيارة: اتركه يا غسان، اترك سلاحك هنا ورافقه إلى المخبر، الرجل يحتاج مساعده، هذا أمر. لا أعرف كيف تحول هذا الرجل العملاق الصنديد إلى طفل، سلّم سلاحه إلى زميله القريب، وقال: تعال معي، ركب بجانبي في السيارة، وأشار إلى الطريق الذي يجب أن أسلكه، قلت له: لكن المرور ممنوع في هذا الطريق، أجابني: الضرورات تبيح المحظورات، أنت معي ولا تخف، صحة ولدك هي أهم من التعليمات، لا أعرف حقاً كيف تحول هذا الرجل الجلف إلى إنسان رقيق ومتعاطف معي إلى أقصى الحدود؟ هل هذا التحول في سلوكه هو استجابة لأوامر رئيسه، أم أن هذا الرجل يحمل في طياته وداً ودفئاً وتفهماً لمآسي الآخرين؟ حين وصلنا إلى المخبر القريب جداً، قال بود شديد وبشيء من الانكسار: هذا هو المخبر، أتمنى لولدك النجاة في محنته، وأرجوك سامحني، وامنحني بعض دعواتك الله أن يشفي ابنتي من مرض السحايا وتأثيراته، وغادر بسرعة، وكأن الظلام قد ابتلعه.
طرقت باب المخبر، فتح الباب شاب أشقر وهو يفرك عينيه من أثر النعاس، وقال وهو يتثائب: خير؟ معي أربعة أكياس من الدم أريد أن تجري لها عملية التصالب، ولدي في مشفى الأطفال، يحتاجها بسرعة وهو في خطر، وضع المصحف الذي كان يحمله في يده على الطاولة، وقال وهو يتناول مني الوصفة وأكياس الدم: “قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، إنه على كل شيء قدير”، خلي إيمانك بالله كبير. وبدقائق معدودة أجرى عملية التصالب، وقبض أجر ما فعل، خرجت مسرعاً، لحق بي، لم ألتفت إليه لكني سمعت صوته ورائي وهو يقول: “وإذا مرضتُ فهو يشفين” و “لا تقنطوا من رحمة الله” هو الشافي الكافي المعافي، وغاب صوته رويداً رويداً، وانطلقتُ أقود سيارتي بسرعة جنونية عائداً إلى مشفى الأطفال.
دخلت قسم الإسعاف في المشفى لاهثاً متعرقاً متقطِّع الأنفاس، لم أجد فادي، ولا طبيب الإسعاف الذي استقبله أول دخوله، وجدت الممرضة السمراء النحيفة القصيرة، وقد عادت تمضغ علكة كبيرة في فمها، وبمضغها القوي عاد الصوت ينطلق من فمها: تراك.. تراك. وقفت مذهولاً، وغصة حادة في القلب: سألت نفسي قانطاً: هل وصلت متأخراً؟ هل خنت فادي بتأخري عن جلب ما يحتاجه من أكياس الدم لتعود إليه الحياة، هل أسلم الروح؟ أين هو فادي؟ في البراد مع جيرانه من الجثث الأخرى؟ للحظات صار كل ما تراه عيناي أسود تماماً، بل شديد السواد، أردت أن أصرخ، أن أبكي، أن أخنق تلك الممرضة اللعينة، التي تمضغ علكتها بطريقة مقززة، أن أنزع من عنقها سلسال الذهب المتدلي وفي نهايته وفوق صدرها اسم خليل، خليل، خليلها و عشيقها، خطيبها، ازددت يأساً وغضباً، تقدمت منها خطوة واحدة، قررت أن أخنقها فعلاً، فجأة قالت: الله يعطيك العافية، نحن قمنا بإعطاء الدم اللازم لفادي، هو الآن في الحاضنة، وإن شاء الله خير، أجبتها وأنا غير مصدق: لكن لماذا أرسلتموني لأحضر الدم، ولديكم ما يحتاجه فادي؟ قالت وهي تمضغ علكتها ببطء وابتسامة صغيرة على ثغرها: نحن نطلب من الأهل جلب الدم كي يبقى رصيد المشفى من الدم كاملاً.. وهذا الإجراء ضروري لحالات الإسعاف الكثيرة، يجب أن نكون بجاهزية تامة دائماً، سألتها: أين قسم حواضن الأطفال، أريد أن أكون بجانبه، قالت:
يتبع…