عبد الكريم عمرين
عادت زوجتي من عمان بعد زيارة سريعة للتعرف على الإمكانيات الطبية والتشخيصية، وبوساطة أصدقاء أخي عبد الرحمن وهم من كبار تجار ومستوردي قطع التبريد في الأردن، استطاعت أن تتعرف على طبيب من مشفى الحسين الطبي، طبيب مختص بالأمراض العصبية، وهو برتبة عقيد في الجيش الأردني. أكد لها أنه سيبذل كل ما بوسعه لمعالجة فادي، والأهم أنه سيقوم بتصوير دماغه بواسطة جهاز المحوري الطبقي، وهو جهاز دخل حديثاً إلى الأردن، وكلفة التصوير فيه مرتفعة، ولا يوجد جهاز مثله في سورية. وأعطاها كارد كتب عليه اسمه: د. … التل. ورقم تلفونه في المنزل، ورقم مشفى الحسين
على عجل وضبنا ما يلزمنا لسفر قد يستمر أياماً طوال، والأهم التقارير الطبية الخاصة بمرض فادي ومنذ اللحظة الأولى، طبيعة إصابته وتشخيصها، أنواع الأنتي بيوتيك، الاستجابات العصبية، تقرير مشفى الأطفال، التحاليل المخبرية، والصور الشعاعية. وصلنا دمشق في العاشرة تقريباً، وانتظرنا حوالي نصف ساعة في الكراج، ريثما اكتمل عدد المسافرين الذين حشروا في سيارة أمريكية من ماركة دودج صفراء، وهذا النوع من السيارات دخل حديثاً إلى سورية، ويتميز بسرعته الفائقة وثباته على طريق السفر. وصلنا عمان حوالي الساعة الخامسة والنصف مساء، اتصلنا بالطبيب من مكتب السيارات، رحب بنا، قال: انتظروني 10 دقائق فقط، 10 دقائق وسأكون عندكم، قلنا له: دكتور، نحن سنتجه إلى فندق نرتاح قليلاً، ونستضيفك ونتعرف عليك. لا أعرف حقيقة لماذا، تغيرت لهجة الطبيب التل، قال بإصرار ورجاء: لاااا.. قبل الفندق أريد أن أراكم، سآخذكم في جولة صغيرة في عمان، أدعوكم لنحتسي القهوة معاً، ثم نتفق على إجراءات الغد. وأمام إصراره وافقنا، انقضت 12 دقيقة، وبانقضائها دخل من باب مكتب السيارات رجل نحيل، متوسط القامة، أشيب الشعر، أبيض البشرة، بطقم رمادي فاتح، وبصوت مرتفع قال: أنا الدكتور … التل. لدي ضيوف من حمص، من سورية، ثم فجأة توجه نحونا: وسألنا بحب: أبو فادي وأم فادي، وفادي؟ أجبناه: نعم، وحضرتك؟ د. التل؟.
صعدنا في سيارته الصغيرة نسبياً، لكن الحديثة، مشى بنا في شوارع لا نعرفها، شوارع جميلة، واسعة، ونظيفة، وأول دهشة لنا، كانت نظام السير الدقيق في عمان، والمطبق على الجميع، حتى على الملك حسين بذاته، وبدأ يسمي لنا الشوارع، والساحات في عمان، ثم طاف بنا في أحياء حديثة، وعند أحد المطاعم توقف وقال بلهجة ودودة: تفضلوا، سنشرب شيئاً بارداً أو دافئاً، وضحك وأضاف: هذا مشروب أهلاً وسهلاً بكم في عمان، تجمدنا في أمكنتنا، واستغربنا سلوكه معنا حقيقة، ثم نزلنا، دخلنا، وبدل المشروب طلب لنا عشاء عرمرمياً، عشاء بدأ بالحديث عن فادي، وانتهى والدكتور التل يتحدث عن نفسه، قال: لا تعتبروني طبيباً لفادي، اعتبروني شريككم في محنتكم، وداعب رأس فادي الذي كان غافياً في حضن زوجتي، وقبّل جبينه بحنان، وتابع وسط استغرابنا وعلائم التعجب على وجهينا: من الآخر، وُلد لي طفل كان مصاباً بطيف التوحد، ناجيت ربي وسألته، لم أرسلت لي هذه المحنة وأنا طبيب باختصاص العصبية؟ أهو امتحان لي؟ لسنة أو أكثر قليلاً كنت أناجي الله وأسأله شفاء ولدي، لكن وأثناء اتباعي دورة للاضطلاع على آخر ما توصلت إليه الأبحاث الطبية في علوم الأعصاب في لندن، أيقنت أن ولدي يلزمه عناية خاصة في المنزل، وعنايتي أنا بالذات كأب له، وطبيب اختصاصي بالأمراض العصبية والنفسية، ومن هناك من لندن اتخذت قراري المصيري، عندما عدت إلى عمان صار ولدي شغلي الشاغل في البيت، وكثيراً ما طلبت إجازاتي لأبقى إلى جانبه في تدريباته الذهنية والنفسية وردود أفعاله العصبية، وأشرف على تعليمه في البيت، ونجحت بعد 15 سنة من العمل المكثف مع ولدي، فقد استطاع أن يكمل تعليمه لغاية الثانوية، وحصل على بطولة عمان بالشطرنج، صحيح أن إصابة ولدي كانت متوسطة بل أقل من المتوسطة، لكن تفرغي لمعالجته حققت نجاحاً مذهلا، وهو الآن في لندن يدرس في جامعته. ومنذ مغادرته عمان قلت لزوجتي: اسمعي يا زوجتي الغالية، أنا قررت أن أهب نفسي لمعالجة الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، لذلك بكل حبي لك وبغاية الاحترام، أقول لك سننفصل، خذي ما شئت من مال، مقدم مهرك ومؤخره، سأشتري لك شقة تليق بك، وأرجوك اعذريني، حياتي لم تعد ملكي ولا ملك لك، حياتي للمرضى، وهذا أقل ما يمكن أن أقدمه لهؤلاء الأطفال بعد أن أكرمني الله بشفاء ولدي. ثم سكت قليلاً مطرقاً رأسه وخاطبنا فجأة: لذلك يا أخوتي، سأعتبر فادي ولدي، والليلة ستنامون في بيتي، وغداً صباحاً سأمر لاصطحاب فادي وأمه إلى مشفى الحسين، والتفت إليّ معتذراً: أستاذ لا أستطيع إدخالك إلى المشفى، يمكنني أن أقول أن زوجتك هي ابنة خالتي وفادي ابنها، أستطيع أن أمرر طلب صورة جمجمة فادي بالمحوري الطبقي، لكن حضورك سيجعل الأمر مربكاً ومحرجاً لي.
أوصلنا إلى شقته الصغيرة الجميلة، قال أنه سينام في المشفى، قبّل فادي من جبينه وقال له: بكرة موعدنا أستاذ فادي سأمر لاصطحابك في السابعة صباحاً، نم باكراً، سنشرب القهوة معاً وننطلق.
في الثانية عشر ظهراً كنا في كراج التكسي نتهيأ للعودة إلى حمص، ومعنا صور الطبقي ونتائج التحاليل، وتقريراً طبياً خلاصته: شلل رباعي متوسط الشدة، والتقرير الشعاعي يحدد مراكز الإصابة الدماغية. ودعنا د. التل، وأكد علينا أن نزوره ونطلعه بين فترة وأخرى على تطور مرض فادي، وأكد على أهمية المعالجة الفيزيائية.
عدنا إلى حمص، وكنت طوال الطريق من عمان إلى دمشق فحمص، أفكر وأتأمل ماقاله وفعله لنا د. التل، وأسأل في سري، هل خلق الله بعض الملائكة ليسكنوا الأرض مع البشر؟.
يتبع….