عبد الكريم عمرين
كنت أزيد سرعة السيارة وأتحكم في مسافة الأمان بيننا وبين سيارة المقدم، وأحياناً كانت تتباطأ سرعتنا بسبب سيارات الشحن الكبيرة أو بولمان أو سائق أرعن يتحدانا ببطولته الخارقة في قيادة السيارة وفي سرعته، عموماً طريق السفر الليلي صعب ومليء بالمفاجآت، فمن هنا تحويلة بسبب إصلاح الطريق، ومن هنا سيارات تنهب عجلاتها الأرض بسبب سفر، أو أسباب شتى تتبع حاجات البشر الملحة وغير الملحة، وتواجهك أحيانا أنواع من السيارات أكل الدهر عليها وشرب، تريد أن تتجاوزك، فتضيع عن سيارة مقدم الأمن، لكن سرعان ما تجد سيارته تبطئ من حركتها بانتظارك…
وأخيراً لاحت لنا دمشق في حوالي الثانية صباحاً، وعند مدخلها حيث إنارة شوارعها صارت تضفي على ليلها جلالة ومهابة وسكوناً بهياً، خرجت لنا من نوافذ سيارة المقدم الأربع، أربعة أكف تلوح لنا بالوداع، وتتمنى لنا ولفادي السلامة… ورددنا التحية بأجمل منها وغبنا في شوارع دمشق باتجاه مشفى الأطفال.
اقتحمت بسيارتنا باب مشفى الأطفال بدمشق، كانت سرعة السيارة حوالي 80 كم، وقبل الباب بسنتيمترات، كان صوت الفرامل يشق عنان سماء دمشق، خرج حراس المشفى وبعض عناصر التمريض لاستطلاع سبب صوت الفرامل الحاد، نزلنا من السيارة حملت فادي وحضنته بقوة، أخيراً يا فادي وصلنا المشفى، ستكون بخير يا ولدي… صدقني ستكون بخير، دخلت قسم الإسعاف مع فطمة، بينما بقي إبراهيم خارجا ليركن السيارة بمكان لا يعيق دخول حالات الإسعاف الأخرى. استقبلنا طبيب الإسعاف وهو شاب في أواخر العشرينيات من العمر، بوجه أبيض وعينين زرقاوين وابتسامة مطمئنة، قال لي: أهلين، ضع مريضك على سرير الفحص لو سمحت، بنت ولا صبي؟ قلت: لا صبي واسمه فادي، قال لي وقد رأى شحوب وجه فادي، خير ان شاء الله، وأوعز إلى ممرضتين إحداهما سمينة بنظارات حنطية اللون وبشعر خفيف، والثانية سمراء جداً نحيفة وبشعر مجعد، تمضغ علكة داخل فمها بإيقاع سريع، فيصدر صوت يشبه صوت تنقيط الماء في صنبور معطل، قال للممرضتين وهو يكشف عن صدر فادي، اعطوني جهاز الضغط وميزان الحرارة، وعندما بدأ بجس البطن بأصابعه وفتح جفني فادي فبان اصفرار بياض العين، أدرك أو حدس أن حالة فادي صعبة، غابت ابتسامته، وعاد ليلقي أوامره الطبية على الممرضتين: افتحوا له الوريد، خذوا عينة دم، وعلقوا له سيروم مختلط، ثم التفت إلى فطمة: حضرتك والدته؟ لا أنا خالة المريض، أنا طبيبة باختصاص صدرية أطفال أجابت فطمة الطبيب، هنا أرتاح الطبيب، فبعض الأطباء يجدون صعوبة في فهم إجابات أهل المريض عن أسئلتهم، فمعظم الأهالي يعبرون بعاطفتهم عن حالات أولادهم، ولا يتحدثون عن أعراض المرض، بل يتحدثون عن ظرف المريض فمثلاً يجيبون: والله كنا نجلس بغرفة الجلوس، ونشاهد مسلسل التغريبة الفلسطينية، وأتينا بعشائنا، ولسه المحروس ما أكل لقمتين أو ثلاثة، حتى أغمي عليه، حركنا خدوده، وقمنا برش وجهه بالماء، بقى وقت اللي ما نفع ها الشي خلال ساعة قلنا منجي ع المشفى. ارتاح طبيب الإسعاف وقدم لنفسه للطبيبة فطمة: أنا الدكتور سامر، أهلا بحضرتك، ممكن تشرحي لي وضع فادي، ثم التفت إلي وسأل: حضرتك والده؟ نعم، أجبته، ثم رجاني بود: ممكن تغادر غرفة الإسعاف؟ خلينا نعرف شغلنا لو سمحت، وقفت متجمداً للحظات أنظر إلى فادي النائم، وإلى الممرضتين اللتين سحبتا عينة من دم فادي، وقامتا بقياس الضغط من ساعده والحرارة من إبطه، وللحظات، انتابني شعور عارم من يأس وإحباط وخوف وتوجس أن مرض فادي ليس بسيطاً، ثمة شيء خطير، كدت أن أحضن فادي وأقول له: لقد فعلت ما بوسعي أن أفعله يا ولدي، لم أبخل عليك بمال أو جهد أو وقت، أرجوك يا فادي استيقظ، ابك، ابتسم، تعال لنعود إلى حمص، ونبهني الطبيب من جديد: أقول لك يا سيد، عليك الخروج من غرفة الإسعاف لو سمحت، أرجوك يا أستاذ من أجل فادي أخرج، خرجت متراجعاً دون أن ألتفت إلى باب الغرفة، أو أعطي ظهري لفادي أو الطبيب، بل بقيت عيناي مستمرتين، تنتقلان بالنظر إلى فادي والطبيب وفطمة، كان دمعي يقول: أرجوك يا فادي كن بخير، أرجوك يا دكتور افعل كل ما باستطاعتك، اصنع معجزة الله يخليك، ونظرت إلى فطمة، التي حبست دمعها، وقالت لي مطرقة الرأس: اطلع عبد الكريم.
وخرجت، أغلق باب غرفة الإسعاف ورائي، أسندت رأسي إلى الحائط، ثم ضربته بقبضتي مرات ومرات، وخاطبت الذات الإلهية: يا رب، يامن أمره بكافه ونونه، يامن تأمر بالشيء أن كن فيكون، كن مع فادي أرجوك، ألست خالقه؟ ألم تنفخ فيه من روحك؟ أليس من أسمائك الحسنى: الكريم، اللطيف، الودود، الخبير، الشافي، المعافي. لا أعرف حقيقة كمْ مضى من الوقت وأنا أخاطب الله وأدعوه وأجأر بالدعاء بدمع حار وقلب مكسور، فجأة انفتح باب غرفة الإسعاف، خرج الطبيب والممرضة النحيفة السمراء جداً والتي غابت العلكة من فمها، قال لي الطبيب وهو يناولني ورقة كتب فيها ما يجب إحضاره، وقال: أستاذ عليك إحضار أربعة أكياس من الدم، فادي عنده ارتفاع بنسبة البيليروبين في الدم، والسكر معدوم، بنك الدم في حي المزرعة بدمشق، بسرعة عليك إنقاذ ابنك…
يتبع…