عبد الكريم عمرين
قلة قليلة جداً أولئك الذين يكتبون عن معاناتهم وآلامهم كآباء وأمهات، بسبب القدر أو الخطأ الطبيعي أو البشري الذي جعل من أولادهم أصحاب احتياجات خاصة، وهو التعبير الذي حلَّ محل كلمة: إعاقة أو شلل. وليس بالعدد القليل، بل هم كثر أولئك الأهل الذين لا يذكرون ذلك أمام جيرانهم أو أصدقائهم، والأنكى والأدهى والأمرّ، والمؤسف أن الكثير من هذه العائلات التي “ابتليت”، كما تعتقد، يسمون حالة أولادهم بلاء، بل مصيبة، فيخفون أولادهم في بيوتهم، لا يظهرون معهم في زيارة أو مشوار عائلي، أو في منتزه أو مطعم، أو احتفال.
لا أعرف حقيقة كيف يفكر هؤلاء، رغم أن هذه العائلات تنتمي إلى شرائح اجتماعية مختلفة، من حيث الغنى، أو الفقر، أو درجة التعليم والثقافة، أو القومية والعرق أو الدين. إنَّ إعاقة أولادهم سرّ مكنون لا يبوحون به، وكأنه من العار أن يكون أحد أفراد العائلة من ذوي الاحتياجات الخاصة، والأسوأ أنهم يعاملون هؤلاء الأولاد معاملة سيئة من حيث المأكل والملبس، إنهم ينتظرون موتهم ليتخلصوا من ذاك العبء الثقيل، أو ذاك العار، والأمر عندي أن الولد الذي أخطأ بحقه الجميع، الطبيعة، الطب والأهل المجتمع والمؤسسات الحكومية والخيرية، هذا الولد نعمة وبركة، هو إكليل الغار على رؤوسنا، هو اختبار قاس ومهيب، هو معيار إنسانيتنا، فلولاه ما كنا بشراً سوياً.
أسوق هذه المقدمة الصغيرة، رغم قناعتي التي لا تتزعزع، أنه ليس ثمة إنسان على وجه البسيطة لا يحب ولده، لكن تلك “المصيبة” التي حلَّت عند البعض ليست بالأمر السهل، هي زلزال حقيقي لا يعرف مخلوق كيف ستكون نتائجه، قد يكون مدمراً للنفس البشرية، وللعقل والقلب والتفكير لدى الأهل، قد تؤدي إلى كوارث عائلية، من طلاق أو انفصال أو حقد بين أفراد العائلة، وقد تفعل العكس تماماً، فبفضلها، تتكاتف الأسرة ويسود الحب، وينكشف النبل الإنساني…. وأعود إلى سرد الحكاية.
جاء ابن أختي إبراهيم الأبيض بسيارة أخي عبد الرحمن، ركبنا في السيارة وهي من نوع بيجو بيضاء اللون، اشتراها أخي من فرنسا وعبرت أوروبا فتركيا واستقرت في حمص، طلبت من إبراهيم أن ينزل، لكنه رفض وظل متمترسا وراء مقودها، قلت: خلص إبراهيم، الله يعطيك العافية، مع السلامة، قال لي: له يا خال وهل سأتركك تقود السيارة وأنت في حالة سيئة؟ خال ما بتعرف شو بصير معك وقد دخل الليل في أوله. فكرت: رأي صائب لإبراهيم فنحن على سفر ليلي ومعنا حالة اسعافية، جلست بجانبه، وفي المقعد الخلفي جلست فطمة وبحضنها فادي، وإلى جانبها جلست ابنتها رفيف. اتجهت السيارة صوب دمشق، وران صمت قاس، وجوهنا متجهمة، وفادي في غيبوبته، وأنا أتلفت كل حين إلى الوراء، لعل فادي يصحو، لعل معجزة إلهية تحدث، صرت أصغي لعل فادي يبكي فأسمع صوته، وصرت أدخن كالمجنون، أفتح نافذة السيارة أبقي يدي خارج السيارة وبين سبابتي وأصبعي الوسطى جمر سيجارتي الذي يتوهج بسرعة الريح. بعد بلدة النبك فقدنا كهرباء السيارة، لا أعرف حقاً كيف حصل هذا الأمر، وكانت خبرتي بميكانيك وكهربة السيارات، كخبرتي في علوم الفضاء، أشار إلي إبراهيم أن ننزل ونتفقد السيارة لنعرف سبب هذا العطل الطاريْ، أو نعود وندخل بلدة النبك لنجد من يصلح لنا هذا العطل، زجرت إبراهيم: لا وقت لدينا، تابع مسيرك، يا رب الملكوت لماذا صار دربنا عسيراً وصعباً ، صارت السيارة تمشي بحساسية عجلاتها على اسفلت الطريق، طبعاً ولجأ إبراهيم إلى خفض سرعتها، خشية طارئ ما، وبانتظار إضاءة السيارات العابرة على طرفي الطريق، لتكون دليلنا في المسير الليلي.
بعد مسير حوالي عشرين كيلومتراً لفظ هواء دولابها الخلفي أنفاسه، وقف إبراهيم على يمين الطريق، نزلنا لنبدل الدولاب الذي انفزر بدولاب الاحتياط، بصعوبة بالغة وضعنا الكريكو تحتها، عتم في ليل كالح وسيارات الشحن تمر بقربنا مزمجرة، رعب ما بعده رعب، صرت أقول في نفسي هذه السيارات الضخمة الرعناء لن ترانا، بعد أن فقدنا إضاءة سيارتنا، لابد أن إحداها ستقذف بنا وبسيارتنا إلى عشرات الأمتار ونكون في قائمة المرحومين، فطنت فطمة أن بحوزتها مصباح صغير له شكل القلم، وهو ملازم لها، يقبع في حقيبتها وتستخدمه في عملها بفحص مرضاها، لكن المصباح اللعين نفدت بطاريته أو كادت، ضوء شحيح جداً، بالكاد ترى من خلاله، عزقات الدولاب، حقيقة كانت لحظات مرعبة، أهو القدر؟ القدر الذي رتبته لنا الآلهة، مرض فادي، غياب إضاءة سيارتنا، البنشرة، لابد أن إحدى السيارات الرعناء الضخمة، ستطحننا، أهي نهايتنا؟ وبسرعة صرخت: إبراهيم، فك الدولاب على مهلك، أنا سأقف قبل سيارتنا بعشرة أمتار أو عشرين متراً، إن جاء سائق أرعن لا يرانا، سأقف وألوّح له ولكل السيارات القادمة ليبتعدوا عنكم، وحتى تنتهي من تغيير الإطار، وإن لم يراني أحدهم سوف يصدمني ويتوقف، عندها سيأتي أحد ما ليحملكم إلى مشفى الأطفال، وآخر سيأتي لحملي إلى مشفى قريب أو إلى براد الجثث، عم تفهم إبراهيم؟ لا تعترض، لن أكون سبباً في كارثة جسدية لكم، والمهم توصلوا بالسلامة لمشفى الأطفال، والتفت إلى شقيقة زوجتي، قلت لها فيما يشبه الرجاء: أرجوك يا فطمة اعتني بفادي إن حصل لي مكروه…
يتبع….