الإرادة

حكاية فادي 6: فصل الدم ذي الزمرة الدمشقية

عبد الكريم عمرين

في الساعة الثانية والنصف صباحاً أو أكثر، أمسكت بالوصفة المكتوبة لفادي ممهورة بتوقيع الطبيب وخاتم الإسعاف في مشفى الأطفال بدمشق، قرأتها بسرعة، وقد سيطر غبش على الوصفة، المريض يحتاج 4 أكياس دم مع التصالب، زمرة الدم/ أو/ إيجابي، لم أطوِ الورقة، الوصفة، بل بقيت ممسكاً بها، جلست وراء مقود السيارة، وانطلقت بأقصى سرعة باتجاه حي المزرعة، لم أشاهد إلا اسفلت الطريق الذي كانت تتناهبه عجلات السيارة، وبين الفينة والأخرى كنت ألقي نظرة خاطفة على الوصفة، اسم المريض فادي، 4 أكياس دم، تصالب، O+

كادت السيارة ترتطم بالأرصفة أو تصطدم بسيارة تمشي الهوينى، وبداخلها عاشقان يتبادلان الغزل والحب وبعض القبلات، عند ساحة الأمويين شمخ مبنى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، بنوافذه الكثيرة المضاءة ومدخله المدجج بالحراس الأمنيين قلت ربما يذيعون الآن بلاغاً رسمياً حول مرض فادي، سيقطعون بث البرامج والأغاني ويعلنون النبأ العظيم، فادي مريض، وهو بين الحياة والموت ويطلبون من المستمعين والمشاهدين الدعاء له، وسيبثون آيات من الذكر الحكيم، وسيطلق الحراس بضع رصاصات حزناً، اجتزت ساحة الأمويين بنزق ورعونة، وكدت أدهس رجلاً عجوزاً يقود دراجته الهوائية بصعوبة، سمعت من نوافذ بعض السيارات التي تجاوزتها سباباً وشتائم مقذعة، الأركان على يساري ومدينة معرض دمشق الدولي على يميني، كل شيء هاديء في ليل دمشق، عدت أقرأ الوصفة على ضوء المصباح المثبت في منتصف سقف السيارة الأمامي على اليسار تلألأت أنوار فندق الميريديان، وعلى اليمين التكية السليمانية بقبابها الصغيرة، انعطفت عند فندق سميراميس إلى اليسار، نظرت إلى طوابقه العالية ونوافذه المضاءة، هناك جرت معركة ذات يوم، حين احتل بعض المتمردين طوابقه العليا واحتفظوا بنزلاء الفندق كرهائن، حتى تحقيق مطالبهم السياسية التي تخص القضية الفلسطينية، وتذكرت بشكل سريع كيف حاصر الجيش السوري الفندق وقد كنت شاهداً على ماجرى وقد انتهى احتلال الفندق باستسلام المهاجمين وجرح بعضهم، انعطفت باتجاه مبنى المحافظة، ثم اخترقت شارع 29 أيار، يااااه حضرت دمشق بتاريخها ويومياتها أمامي، ذكرياتي فوق أرصفتها وشوارعها، دمشق التي عشت فيها 11 عاماً متواصلة، دمشق الرائعة التي لا تنسى، دراستي، عملي، خدمتي الإلزامية، العشق الذي عشته على أرصفتها وفي بيوتها، المسرح، السينما، إدارتي للمسرح العمالي في سورية، لماذا يا دمشق أعود إليك قبل انبلاج الصبح، وبيدي وصفة تطلب دماً، لينجو فادي من محنته الصحية؟ لقد وهبتك يا دمشق شبابي، جهدي وتعبي وكفاحي ليكون فيك مذاق الخبز أحلى وسقوط الثلج أحلى، لتكوني دمشق المدينة الأعدل والأجمل، لماذا يدور الزمن لأعود إليك طالباً 4 أكياس من الدم لولدي ليحيا، ضممت الوصفة إلى صدري، وبكيت، قلت: لن تبخل عليّ دمشق بقليل من الدم، لأني لم أبخل عليها بكل جهد لتنهض وتستمر ولتكون أبهى وأجمل عواصم العالم قاطبة.

خلف مجلس الوزراء كان مبنى بنك الدم، ركنت سيارتي على عجل وركضت كالمجنون نحو بابه المقفل، خلف الباب ضوء باهت، طرقت الباب، لم يستجب أحد، عدت أطرق بقوة، وبقبضة يدي، بل بكلتا يدي ولم يستجب أحد، وما فتح الباب، صرت أصرخ وأطرق الباب بحجر وجدته بالقرب مني، بعد وقت لا أعرف تقديره، فُتح الباب، ووقف قبالتي ممرض نحيف بمريول أبيض متسخ، ومن خلال تثاؤبه قال: شو بدك؟ وليش هيك عم تخبّط ع الباب؟ زعجت الجيران يازلمة، روق، قلت له بسرعة ولهفة: أرجوك بدي 4 أكياس من الدم ولدي في خطر، تثائب الممرض المناوب وبانت أسنانه المنخورة والسوداء من كثرة التدخين، قال: الحقني وهات الوصفة، لحقت به، لم أجد الوصفة في يدي، صرت أبحث عنها في جيوبي، وأنا أرقب قدميه بشحاطته البنية المهترئة، التي كانت تعكس إيقاع مشيته البطيئة تراك تراك، ويعود صدى صوت طرق الشحاطة اللعينة على بلاط المبنى العتيق المنخور، أخيراً وعند طاولة المناوب وجدت الوصفة التي دسستها في جيب بنطالي الخلفي، وتناولها وهو يتثائب، أفرَغَ معلومات الوصفة في سجل مهتريء على الطاولة وحرر لي إيصالاً مالياً بقيمة ثمن الأكياس وتوجه نحو براد متخم بأكياس الدم ناولني الأكياس وخرجت مسرعاً دون إلقاء تحية المغادرة، لحق بي وهو يتثائب، وعند الباب صرخ بي: ولك وينك؟ لا تروح ع المشفى مباشرة، لازم تعمل التصالب في مخبر مناوب، سألته: اين هذا المخبر، قال: المخبر المناوب تقريباً في ساحة السبع بحرات، في الطريق المتجه نحو الصالحية.

لم أعرف أين هذا المخبر، صرت أدور بالسيارة كالمجنون في دوار السبع بحرات لمرات ومرات، حتى أن دوريات الأمن والشرطة المناوبة في الساحة ساورها الشك في دوراني وغيابي قليلاً في الشارع المؤدي إلى ساحة عرنوس، ثم عودتي إلى دوار السبع بحرات، اقترب رجال الأمن أكثر إلى دوار الساحة، صار لديهم اعتقاد راسخ أن المدعو أنا، يبيت أمراً خطيراً، اشهروا سلاحهم واتخذوا وضعية الهجوم والانقضاض عليَّ ليحققوا معي ويتأكدوا من إثبات ظنونهم أو نفيها، فجأة توقفت بقربهم ونزلت من السيارة، فازدادوا تأهباً تحسباً لأمر جلل، وصرخت في وجوههم:

يتبع…