عبد الكريم عمرين
كان الطريق إلى مشفى الأجانب غير بعيد جداً، وطوال الطريق كان السائق العجوز ينظر إلي وكأنه يريد أن يعتذر، أخرج سيجارة من جيبه ودون أن ينبس ببنت شفة، وبلغة الإشارة سألني: هل تسمح لي أن أدخن هذه السيجارة؟ وأجبته بهزة من رأسي موافقاً دون أن ألتفت إليه، مشت السيارة ببطء نسبي، ربما كان العجوز يريد أن يهدئ خاطري أو خاطره، بتقييد سرعة السيارة، صار يدخن بشراهة ويحاول أن يرمي بدخان تبغه بتكوير فمه وإلقائه خارج السيارة من خلال النافذة خشية أن يزعج فادي، فجأة مد يده إلى كيس قماشي أبيض عتيق، وأخرج منه زجاجة جن سميرنوف، نظرت إليه بغضب وعجب، أردت أن أصرخ به وأشتمه، فكيف يريد أن يشرب الكحول وهو في عمله، هنا، أشار إلي أن الزجاجة مختومة، وستبقى مختومة، وأشار إلى أن هذا المشروب فاخر، وبسرعة أعاد الزجاجة إلى الكيس، ومن زجاجة ماء بلل قطعة قماش غير نظيفة، وأخذ يمسح الدم الذي بدأ يتيبس حول فمه، ثم فتح الراديو على إذاعة روسية، وبالمصادفة كانت الإذاعة تبث أغنية لمطربة شهيرة جداً في روسيا السوفييتية هي: آلّا بوخوتشوفا فابتسمت فأنا أحب هذه المغنية وأحسست بالرضى الداخلي لأن العجوز حاول أن يعتذر ويسترضيني ويُظهر لي أنه رغم كرهه للاشتراكية والسوفييت، فها هو يبرز زجاجة جن روسية، ثم يسمعني أغاني روسية.
وصلنا إلى مشفى الأجانب، كان مشفى ضخماً تحيط به الأشجار، وكل شيء هادئ ومنظم وجميل حول المشفى وما بدا لي بداخله، أراد السائق أن يدخل بالسيارة إلى الداخل لكن الحرس بالباب منعوه، فصار يقنعهم بالبلغارية أن معه طفلاً مريضاً وهو أجنبي من فرنسا ومعه والده، وسألني أمام الحرس الذي بدأ يتفرس في وجهي: ألست من فرنسا يا رفيق؟ ضحكت، فكيف له أن يجمع بين موطني الفرنسي وكلمة تفارش/ رفيق بالروسية. وضحت للحارس وصححت خطأ العجوز السائق، أنني من سورية وأخرجت له جواز سفري وجواز سفر فادي الذي بدأ يصحو من نوم عميق، تفحص الحارس جوازي السفر، وقال لي: أهلا وسهلاً جوازات السفر ستبقى مع مُرافِقة لكما لزوم التسجيل وحتى خروجكما، تفضلا وأهلا وسهلاً بكما، والتفت إلى السائق وأمره بالابتعاد بسيارته عن الباب الرئيسي، ففعل، وبسرعة حضرت ممرضة جميلة جداً ومعها كرسي بعجلات، وأجلست فادي فيه، وأشارت إليّ أن تفضل.
بعد إجراءات الدخول الإدارية، بدأت الممرضة تسألني أسئلة خاصة، عن مرض فادي وسبب مجيئي إلى بلغاريا ولماذا اخترت مشفى الأجانب لعلاجه، ثم لماذا لم أحصل على موافقة خاصة لعلاج فادي مجاناً، فسألتني: هل أنت بعثي؟ أووف ما هذا السؤال؟ وعندما التزمتُ الصمت، سألتني هل أنت شيوعي؟ نظرت إليها وتفحصتُ غباءها وجمالها بآن معاً، فقد كانت شقراء طويلة ذات عينين واسعتين زرقاوين أقرب إلى الجحوظ، وكان وجهها خريطة تجارب لكل أنواع المكياج النسائي، وفمها صغير وشفتاها غطتهما حمرة فاقعة، وابتسامة هي مزيج من نصف جمال نسائي ونصف غباء مخابراتي، فمن الواضح أنها مجندة من الأمن البلغاري لمعرفة وتقييم الأجانب الذين يدخلون هذه المشفى، هنا وبعد تحديق طويل أجبتها: نعم أنا شيوعي، وبشبه تهديد أو استجواب سألتها: وأنت؟ ألست شيوعية؟ أجابت وكأنها تبعد شبهة عن نفسها وتفتخر: طبعاً.. طبعاً أنا شيوعية حتى العظم، وأرادت أن تغير منحى الحديث، فبدأت تشد سوتيانها الضيق الذي ضاق ذرعاً بثدييها الكبيرين، وتعقد زر مريولها الأبيض الذي كان مفتوحاً عن سابق إصرار وتصميم، فبدت فتحة النهدين كقمتين عاجيتين تهتزان كراقصة على إيقاع مشيتها، فسألتني: هل تعرف أنه يجب عليك دفع 40 دولاراً لقاء كل عيادة تزورها في المشفى؟ أجبتها بلا مبالاة: لا أعرف، لكن ليس ثمة مشكلة، فجأة نظرت إلى كيس وضعت فيه بعض حفاضات فادي وسألتني مستطلعة: ماذا يحتوي هذا الكيس؟ لم أرد، فقد أدركت ما معنى أن تسألني هذا السؤال، كررت سؤالها: لم تجبني عما يحتويه هذا الكيس، إن كان فيه هدايا، أرجو أن تكون حذراً بتقديم هداياك إلى السلك الطبي أو التمريضي أو الإداري في المشفى، سيتهمونك بالرشوة، وهذا مخالف للقوانين وللأخلاق الاشتراكية، ضحكت قليلاً وبشيء من السخرية قلت لها: ليس في الكيس سوى حفاضات لفادي ومحارم ورقية، وبودرة تالك، هل تعرفين بودرة تالك هامول، والصبي الذي يغني في التلفزيون السوري: يا مامي رشّي لي تالك هامول.. بودرة تالك خلي ابنك يرتاح، وقلتها بالعربية وبشيء من الغناء… هنا أسقط في يد الممرضة التي لم تفهم ما قلته، وابتسمت ابتسامة بلهاء، ثم أردفت بصوت خفيض: أستطيع أن أخفي عندي هذه الهدايا التي تحملها، وهنا وصلنا إلى عيادة الأطفال، فقامت بمساعدتي على تسجيل اسم فادي كمريض، وعلى دفع رسم المعاينة 40 دولاراً.
قامت طبيبة الأطفال في العيادة بفحص فادي، واستحصلت على النبض والضغط ودرجة الحرارة، كما قامت بالكشف عن صدره فسمعت دقات قلبه، وصوت تنفسه وفحص رئتيه، كان الطبيبة سمراء أنفها معقوف وتضع نظارتين سميكتين، وفوق شفتها العليا ظهر شاربها الخفيف والناعم الشعر، كنت أكتم غيظي، فأنا لم أقطع كل هذه المسافة من سورية إلى بلغاريا من أجل هذه الفحوص البسيطة، فحالة فادي تستدعي طبيباً اختصاصياً بالأعصاب، وعندما طلبت الطبيبة السمراء، ذات النظارتين السميكتين والقصيرة ذات الثديين الضئيلين انفجرت غاضباً: لماذا صورة الصدر؟ قلت لك فادي عنده شلل رباعي متوسط الشدة، فلماذا صورة الصدر يا دكتورة، أم أنكم تريدون ابتزاز مرضاكم الأجانب، نعم نحن أجانب لكننا بشر.. بشر من لحم ودم، تريدون مئة دولار لصورة صدر بسيطة؟ هذه اشتراكيتكم؟ عيب.. عيييييب… وبلحظة تكوّم حولي بعض العاملين في المشفى وبعض أعضاء الكومسمول البلغاري… ثم حضر المدير الإداري فزاد صراخي وانتقادي لبروتوكول استقبال المريض… وسحبني المدير من يدي إلى مكتبه، بينما اهتمت الممرضة المرافقة بفادي….. وووو
يتبع….
يتبع….