عبد الكريم عمرين
نحو الساعة الثامنة صباحاً استيقظت لأجد نفسي في البانيو وسط ماء فاتر جداً، للحظات لم أصدق ما أراه، هل هو حُلم، أم واقع؟ كان جلدي وخصوصاً في أطرافي منتبجاً ومتجعداً بخطوط عميقة نسبياً بسبب بقائي لساعات في البانيو، وبسرعة جففت الجسد المنهك، وأخرجت من حقيبتي سخان الماء الكهربائي الصغير الذي اصطحبه في رحلاتي وسفري، صنعت لنفسي قهوة حمصية ثقيلة وجلست قبالة النافذة في غرفتي بالفندق أستطلع حركة الشارع العريض وضجيج الحافلات والمقعد الخشبي الذي كنت قد قررت أن أقضي ليلتي جالساً عليه حتى يبزغ فجر صوفيا، وأبحث عن صديقي السكير الذي أراد قتلي وسرقة ما لدي من مال.
كان يخطر لي أنه مازال ينتظرني خارج الفندق، وأنه مصمم على الانتقام لأني ضحكت عليه وتركته في الشارع ينتظر أن أرافقه إلى خمارة أو ملهى ليلي، حيث يطفئ الرواد ظمأهم بخمر فاخر أو قميء حسب ما يملكون من مال، فينسون استبداد اشتراكيتهم، وعيون المخبرين، ويكسرون أختام السماح لهم بالخروج على جوازات سفرهم، التي تعفّنت في أدراج البوليس. إنهم يحلمون بالحرية بالحد الأقصى، وبالحد الأدنى يحلمون بلبس بنطال من الجينز أو شراء آلة تسجيل يابانية.
في الخمارات والملاهي الليلة لا يحلم المقموع البائس سوى بخمرة تحرره من بؤسه وبامرأة تقدم له الحنان والدفء.
بدأ القلق يساورني في بلد غريب أزوره لأول مرة، فصديقي الحمصي الذي وعد بمساعدتي لم يرد على رنين الهاتف الذي رن ورن لعشرات المرات في الليلة الفائتة، وأنا لا يمكن أن أبقى في هذا الفندق الفخم، فما معي من مال مخصصٌ لعلاج فادي.
صار الجوع يحاصر معدتي الخاوية منذ أكثر من 24 ساعة تقريباً، فطنت أن طعام الطائرة مازال بحوزتي، أكلت لقيمات منه ، وقمت إلى هاتف غرفة الفندق، طلبت رقم صديقي الحمصي، بدأ الرنين وأنا يائس تماماً، غابت أول رنة ثم الثانية، في نهاية الرنة الثالثة كدت أن أفقد وعيي حزناً فقد انقطع كل أمل لدي، ومجيئي إلى بلغاريا لعلاج فادي لا فائدة منه، سيذهب المال إلى الفندق والطعام، خلال فترة انتظار فادي الذي سيأتي بعد أسبوع بالضبط، ولو جاء فادي إلي، فسأجد صعوبات جمة في خدمته في الأوتيل.. يا الله أنا بحاجة لاستئجار شقة، أو غرفة بمطبخ صغير وحمام وسرير يتسع لي ولفادي ليس إلا… لا أعرف بعد أي رنة في الهاتف جاءني الرد باللغة البلغارية: ألو، قلت سريعاً وبالروسية والعربية معاً، ألو أنا أريد أن أتكلم مع سامر، أجاب الصوت: سامر معك أهلين أبو فادي، الحمد لله على سلامتك.
صرخت دون وعي مني: سامر أنا في الفندق بالقرب من محطة القطار ومكان مبيت الأفتوبيسات والتريليبوسات لا أعرف اسمه، ولا أعرف اسم المنطقة أرجوك سامر تعال خذني إلى أي مكان، إن كان لديك مكان في الشقة سأنزل عندك وأدفع أجرتها وكل المصاريف، أو إذا كان لديك صديق في دار سكن الطلاب أو… قطع سامر حديثي: روق أبو فادي أنت لديك سكن ظريف، البارحة استأجرت لك غرفة مستقلة في منطقة راقية وقريبة جداً من وسط مدينة صوفيا… هنا هدأت تماماً ولم أنبس ببنت شفة، تابع سامر: سأمر لعندك بعد ساعة من الآن لنستلم الغرفة أجرتها لمدة أسبوعين 100 ليفا، وإياك أن تخبر أحداً، خصوصاً بالمبلغ، صحيح أن الغرفة في الطابق الثالث لكنها جيدة التهوية وفيها براد صغير ومطبخ وحمام مع بعض، تكفيك أنت وفادي، انتظرني لن أتأخر عليك.
أغلقت السماعة دون وداع أو شكر لسامر واستلقيت على السرير أحدق في سقف الغرفة شاكراً الله ثم سامر وحظي الذي صار معقولاً.
من شباك الغرفة التي استأجرتها قال لي سامر وهو يؤشر إلى سطح قريب جداً، وهذا بيت أهل جيفكوف رئيس بلغاريا، وما هذا الصحن الضخم على سطح بيت أهل رئيس الدولة؟ سألت سامر، فأجاب: لا أعرف ربما هو جهاز استقبال لقنوات فضائية، أو استقبال وبث تعليمات، أو تنصت، أو مراقبة، أو أو شيء استخباراتي لانعرف كنهه. ثم أردف معتذراً: أنا آسف قلت لك إن غرفتك في الطابق الثالث، وهي في الرابع حقيقة، قلت: لا عليك المهم ستكون مأوى لي ولفادي.
جاءت صاحبة المنزل مرحبة بي بوجه جامد عابس بلا حياة، امرأة سمينة وطويلة، بيضاء البشرة بثديين طويلين جداً يهتزان بشكل رجراج عند أدنى حركة لجسدها. مسحت شعر رأسها المصبوغ بالأحمر وقالت: الـ100 ليفا أجرة الغرفة وصلتني، وهي أجرة غرفتك لمدة أسبوعين، إن أردت أن تستمر لفترة أطول، فأخبرني قبل يومين على الأقل، لكن أين ابنك المريض؟ أراك لوحدك، قلت لها: سيأتي بعد أسبوع، أنا سبقته كي أؤمن له غرفة وبعض ما يلزم لمعيشتنا لمدة أسبوع، اسمي كريم، لحظة من فضلك، وتوجهت نحو حقيبتي وقدمت لها كغ من القهوة: هذه هدية تعارفنا، أرجو أن تقبلي مني هذه الهدية، وهي قهوة فاخرة ابتسمت العجوز بفتور، وصار بصرها مركزاً على كيس القهوة الذي احتضنته بقوة، قلت لها: سيدتي أريد أن اشتري عربة أطفال لفادي، لا أستطيع أن أحمله دائماً في أروقة المشفى أو في المعاملات الرسمية أو عند إجراءات فحوصه الطبية أو في نزهاتنا، قالت: بحيادية بل بشيء من التعالي علي إذ تقدم لي معلومة: هل تعرف شارع آلابين؟ قلت: لا أعرفه، لكن يمكنني… قاطعني سامر سأدلك عليه وسأدلك على طريق العودة إلى غرفتك، تعال معي، انسحبت العجوز إلى بيتها دون كلمة شكراً، ونزلنا أنا وسامر إلى شارع آلابين.. وياله من شارع….
يتبع…..