عبد الكريم عمرين
وقت طويل مرَّ حتى انتهينا من إجراءات دخول بلغاريا عبر مطار بلوفديف، وقد استنتجت من سفري ونزولي في مطارات مدن صغيرة، وليس في مطارات العواصم الكبرى، أن بطء الإجراءات الأمنية والكسل، وقلة الخبرة وضعف الفراسة لدى موظفي تلك المطارات هي السبب في إطالة وقت الدخول. المهم صعدنا الباص المتجه إلى صوفيا، الباص المزدحم بالواصلين معي إلى بلوفديف، ولم أحظ بمقعد أريح فيه جسدي المتعب من سفر طويل وانتظار وقلق، وحين وصلنا صوفيا، نزلنا في محطة بولمان حوالي الساعة الواحدة ليلاً، وهذه المحطة ملاصقة تماماً لمحطة القطارات والترومايات التي بدأ بعضها يدخل للمبيت.
بحثت عن هاتف عمومي، وبدأت أتصل بالطالب السوري الذي أبدى استعداده لاستقبالي ومساعدتي عند وصولي وطوال مدة إقامتي في بلغاريا، وقد رغبت في تنفيذ مبادرته ووافقت باعتباره طالباً في السنة الخامسة من كلية الطب، وهذا يساعدني جداً في ترجمة المصطلحات الطبية لمرض فادي. لكن صاحبنا لا يرد.. اتصلت مرات ومرات في ليل صوفيا البهيم، ليل قاس تخترق برودته جسدك، ليل طويل تبحث فيه عن وسادة لترتاح من تعب ممض، اتصلت مرات ومرات، لكن النتيجة واحدة: لا أحد يرد، وفقدت الأمل تماماً، وكانت أولى انكسارات الروح وخيبة الأمل، جلست إلى مقعد في شارع عريض وسط هدير البولمانات والترومايات، وفي القريب جداً، فندق ب 5 نجوم، كانت أنواره تتلألأ في حضرة ضجيج وسائط النقل التي ترتاح في محطاتها الأخيرة ومكان مبيتها استعداداً ليوم جديد بدأت تباشيره تلوح في الأفق.
قلت في نفسي، سأنام على المقعد الخشبي في الشارع، لن أدخل الفندق فأنا أجنبي، وسيطلبون مني أجر المبيت 100 دولار بالتمام والكمال، وعزمت أن أوفر المائة دولار لفادي، وقررت النوم في الشارع حيث أجلس، وكإجراء احتياطي أخرجت ال 2000 دولار بحوزتي وأخفيتها في حذائي، وأمسكت بحقيبتي الضخمة التي احتوت بعض الهدايا وبعض ثيابي، وثياب فادي وغياراته الداخلية وحفوضاته. رميت رأسي فوق الحقيبة، دقائق معدودة ليس أكثر، استيقظت على نكزات سكّير في كتفي ، يطلب عود ثقاب أو قداحة ليشعل سيجارته المتدلية من فمه. كان السكّير طويل القامة بوجه أبيض فيه آثار الجدري واضحة، كان يلبس بنطالاً أسود، وقميصاً أزرق مفتوح الصدر بنصف كم، وعند زنده القوي الضخم وشم ورسوم لم أستوعبها، أو لم أتبينها، وفي يده كيس فيه 3 حبات من الجزر، حين طلب مني إشعال سيجارته وعرف أني أجنبي، قرر شيئاً شريراً وغامضاً، سألني فجأة غاضباً: اين الدولارات؟ قلت: أي دولارات؟ أنا لا أحمل عملة أجنبية، بدأ يصرخ بشكل مكتوم: أجنبي ولا تحمل دولارات؟ أنت تكذب. فجأة امتدت يده إلى جيبه، أخرج موس كباس، وهددني بثقة: إن لم تعطني الدولارات التي بحوزتك، فسأغرس هذا الموس في بطنك. ابتسمت ونظرت في عينيه مباشرة، قلت له موافق، بعد أن تجيب على سؤالي: لماذا تريد دولاراتي يا صديقي؟ أريد جواباً صادقاً طبعاً، أجاب وهو متردد قليلاً لسؤال ضحيته الصادق والمتفهم والمحب، قال: أريد أن أشرب وأن أعاشر امرأة، هنا ابتسمت له بإعجاب وعاتبته: بشرفك يا صديق أجبني، كيف يحلو شرب الخمر دون صديق ومعاشرة النساء دون نديم، فتح عينيه مستغرباً سؤالي، هو يبحث عن لذة، لذة تنسيه ما هو فيه من شظف العيش، وقسوة النظام الاشتراكي، وامرأة هجرته لإدمانه.. لم أمهله ليجيبني بل أسرعت القول: أنت رجل حقيقي يا صديقي، وأنا مثلك أحب الخمر والنساء، وأحببت ذاك الموس في يدك، الذي يدل على أنك رجل زغرت وقبضاي، ولذلك سنسهر معاً بقية الليل وطول النهار وعلى حسابي الشخصي، لأنك منذ اللحظة أنت صديقي، فجأة تحول السكير القوي المفتول العضلات، إلى طفل، صار يضمني ويبكي بكاء مراً، ووسط حشرجته ودموعه صار يشكرني، ويقول لي: نعم أنت صديقي أنا أحتاجك، أحتاج صديقاً كريماً مثلك.
صرت أربت على كتفيه، قبلته ورائحة الخمرة الواخزة الخارجة من فمه تخنقني وهو يلهث ويحشرج، ودموعه ومخاطه ملأا كتفي، أبعدته عني بلطف، قلت له: أمهلني دقائق قليلة، سأدخل الفندق، أضع فيه حقيبتي وأعود إليك، سنحتسي أنهاراً من الخمر ونصحب النساء، نساء كثيرات، ابتسم ونظر إلي بامتنان، قال: سأنتظرك، هيا صديقي الغالي.
حملت حقيبتي، دخلت الفندق، حجزت غرفة ، دخلتها وأنا في غاية الإعياء، ملأت بانيو الحمام، نزعت ثيابي كلها، غطست في مياه البانيو الدافئة، وبثوان قليلة دخلت في نوم عميق…
يتبع….