عبد الكريم عمرين
كنا نجري اتصالاتنا مع أصدقاء في عمان، أو مع أصدقاء الأصدقاء، فلم نكن نعرف في الأردن كلها، سوى بضعة أشخاص معظمهم من السوريين، ومعظم المعلومات التي جمعناها شحيحة أو تكاد، لذلك جرى الاعتماد الكلي في الزيارة الأولى لعمان على شركاء أخي عبد الرحمن، وأخي عبد الرحمن يمكن الاعتماد عليه، لسمعته الطيبة كمستورد كبير وتاجر مهم في مجال سوق التبريد، في مناطق: سورية – لبنان – الأردن – مصر. أبدى عبد الرحمن كل اهتمام، واتصل بشركائه في عمان، الذين حجزوا لزوجتي في فندق ذي خمس نجوم.
قبل سفر زوجتي بيومين أو ثلاثة، جاءني أخي عبد السلام، جلس مساء عندنا، يداعب فادي، ويهون علينا مصابنا، ويستفسر مني عن رحلة عمان، فجأة سألني: ألم تكن متصوفاً في مراهقتك وشبابك الأول؟ باغتني سؤاله، وبشيء من الرضى ومن دفء الذكريات، قلت: بلى، لكن تلك أمة قد خلت، لماذا تسألني وأنت تعرف الجواب؟ ما الذي ترمي إليه يا أخي؟. مال إليّ بحب، وهمس في أذني: أرجوك يا أخي، قبل أن تذهب بفادي إلى عمان، أطلب منك أن تذهب معي وبصحبة فادي طبعاً، إلى منطقة في ريف القصير بحمص، يوم الجمعة القادم، لم أرد، وكأني خمنت قصد أخي عبد السلام، الذي كان يصادق مجموعة من المتصوفة الإسلاميين، ويحضر مجالس ذكرهم، وحلقاتهم التثقيفية، وخلواتهم، وهو بصحبتهم يكتشف عوالم جديدة في مدارج مكابدة المتصوفة، وصولاً إلى لذة الوصال الإلهي. ثم أردف: أنت تعلم يا عبد الكريم، أن التصوف مقامات وأحوال وأذواق، وأن ثمة نقباء وأقطاب وأبدال، فجأة قاطعته وسألته: من الآخر قل لي يا أخي، ما الموضوع؟. قال: اتفقت مع جماعتي المتصوفة أن يكون ثمة حضرة صوفية بعد صلاة الجمعة، وهذه الحضرة ستقام على نية شفاء فادي وبشكل مخصوص، وأرجو أن يمن الله بالشفاء على فادي وأن تنكشف أنواره الربانية ووو…. وتركته يتحدث دون إرادة مني، فقد استدعى حديث عبد السلام عن التصوف، عندي ذكريات دافئة وحارة وصادقة…
كنتُ متصوفاً، وبدأت أقرأ وأنا في الصف السابع كتاب الإمام الغزالي إحياء علوم الدين، وبدأت أؤسس لمكتبتي الخاصة، وكلها كتب دينية. كانت دار الفقراء، زاوية لمتصوفة حمص، تقع في أحد الشوارع الصغيرة المتفرعة عن طريق سوق الحشيش، وهي عبارة عن بيت عربي بفسحة دار وقاعة واسعة، كانت ساحة فيض حين يشتد الحال أثناء الذكر. في رمضان من عام 1967، كنا نجتمع هناك كل ليلة بعد صلاة التراويح، ونقف على شكل صندق مفتوح متشابكي الأيدي ونبدأ بالذكر، نبدأ بصوت خفيض متهدج، نستكين إلى الذات الإلهية بذكر مفردة واحدة باسمه: الله، ويقف وسط هذا الجمع شيخان أو ثلاثة يقودون حلقة الذكر ويقفون أمام المريدين ليأخذوا العابد إلى الفيض، بالضرب على ظاهر أكفهم مع إيقاع هدير الله، الله، ناظرين إلى الشخص المقصود نظرة حب وحنان وسكينة، فكان أحدنا ومن خلال هذه النظرة يغيب طويلاً في نشوة هائلة، متقدماً بخطوته الأولى إلى سدرة المنتهى، في هذا الصالون الواسع كان يتشكل رويداً رويداً أثناء الذكر نوع من عبق إلهي وبشري، لنقل أنه كان يحدث خلط ما جميل بين الناسوت واللاهوت، ناسوت مزاجه مكابدة ورجاء، ولاهوت مزاجه النور في كأس خمر لذة للشاربين.
في عصر بعض الأوقات، كان هناك نوع من التثقيف، فكانوا يقسموننا إلى حلقات حسب العمر ودرجة التعليم، وكنت مع فئة طلاب الثانوية رغم أني في أواخر الأول الإعدادي، أذكر أنهم أعطوني كتابا ضخماً عن التصوف للشيخ عبد القادر عيسى، ثم حضرنا في جلسة تثقيفية، وصار المشرف يسألنا عن تعريف التصوف، جاء دوري في السؤال، فأجبته بحوالي ثلاثين صفحة من كتاب الشيخ عبد القادر كنت قد حفظتها……
في أواخر شهر رمضان وبعد صلاة التراويح في جامع آل عباس، وقبل الذهاب إلى دار الفقراء، قال لي المشرف، الليلة سيعطيك شيخنا الورد، اليوم سنطوّبك متصوفاً، ذهبنا إلى جامع التلة في باب هود، كان المسجد بإضاءة خفيفة جداً، وثمة صمت هائل، لكن وجيب قلبي كان ينتهك هذا الصمت المهيب، اقتعدنا بجانب المحراب على شكل دائرة صغيرة بانتظار الشيخ عبد العزيز عيون السود، أقبل الشيخ بقامته الفارهة، وربما رأيته كذلك، بوجهه النوراني وذقنه البيضاء ولفته البيضاء، فوقفنا وقبلنا يده وجلسنا حوله قعوداً، صمتَ طويلاً، طويلاً جداً وهو مغمض العينين، وأنا حائر، وقلق ومستعجل لأحصل على رتبة المريد، وعلى سلاحي الجديد: الوِرد.
هكذا صرت متصوفاً برتبة مريد، ومعي زاد الطريق إلى الله، وِردي الذي حرصت أن أردده بعد كل صلاة. لكن ثمة شيء كان يمور داخل عقلي وقلبي، فرغم الخدر اللذيذ والجذب، أو لأقل الرومانس الصوفي، كان ثمة عقل فتى صغير يقارن ويحلل فيما يُروى له أو يُقال، أو في نصوص كنت أقرؤها هنا وهناك، هو بعض التفكير في الفتاوى والتحريم والتحليل والسلوكيات، وكان معياري الأول النص القرآني، والمعيار الثاني نصوص الحديث التي لم أحب بعضها، والأهم السلوكيات المدسوسة لبعض الصحابة…
ولم أجد نفسي إلا وأنا أجيب أخي عبد السلام، موافق.
شمال غرب منطقة القصير، دخلنا بيتاً فسيح الأرجاء، بفسحة دار كبيرة، تتصدرها قاعة كبيرة جداً، ببابين ونافذتين كبيرتين بلون أزرق كامد نسبياً، كانت جدران القاعة مزينة بالدفوف والمزاهر المعلقة، ومعظم الحاضرين من المشايخ هم رجال بأواسط العمر، بلحى سوداء كثيفة وعيون زائغة شاردة ساهمة، توجست المكان والأشخاص، وأصابني بعض الحزن، فليس ثمة نور، فليس ثمة إشراق، وليس ثمة لين وحبور وجمال في الوجوه، بل التجهم والعبوس، ولا شيء غير ذلك. أخذ أخي عبد السلام مني فادي، وضعه في منتصف حلقة الذكر، ودعاني كبير مشايخهم لأن أشاركهم طقوسهم فرفضت، وبدأت الطقوس، بالنقر على الدفوف والإنشاد، وتمايل الأجساد.. وحمي وطيس الإنشاد وقفز بعض الأجساد في الهواء، في استعراض مقيت، مفتعل، وميكانيكي وجاهل، ضيقوا المسافة الفاصلة بينهم وبين فادي، الذي انطلق يبكي، ازدادوا جنوناً وقفزاً مجانياً دون اتساق إيقاعي يرافق الكلام أو الألحان.. كاد قلبي أن يتوقف، أي تهلكة أرمي فادي فيها، ما هكذا يكون التصوف، هؤلاء جهلة لا يدركون ما يفعلون، كالمجنون اخترقت منتصف الحلقة، حملت فادي وغادرت بصعوبة، لحق بي أخي عبد السلام وبعض أهل الدار، ركبت السيارة، ركب عبد السلام بجانبي، انطلقت بسرعة جنونية أريد التخلص من المكان.. قال لي أخي عبد السلام: ليش هيك عملت؟ شو صار؟ لم أرد، ثم بغضب بارد قلت له: الله يسامحك، كيف دعوتني إلى حضور طقوس هؤلاء الدجالين؟.. التصوف الحقيقي أرقى وأسمى وأنبل مما رأيت.. أنا الذي عرفته.. أنا الذي عرفته..
يتبع…