الإرادة

حكاية فادي 19: كل الأيام تتشابه إلا يوم الغد

استمع للمقالة
00:00
00:00
استمع للمقالة -
  • استمع للمقالة

عبد الكريم عمرين

ليومين تقريباً، كنت أسأل عن مراكز طبية وعلاجية تهتم بحالات مرضية مشابهة لمرض فادي، ثمة مراكز كثيرة تحتضن حالات مشابهة، من الشلل الدماغي، وترعاهم لمدة 24 ساعة يومياً، وفي الحقيقة لقد جئت إلى بلغاريا للبحث عن أفضل المراكز التي تعتني بالأطفال ذوي الإعاقات وتقدم لهم الدواء والعلاج بالمعالجة الفيزيائية وتهتم بهم ببرامج ترفيهية تناسب أعمارهم، ومن خلال هذه البرامج يمكن للطفل المصاب أن يتحسن بشكل كبير، وفي الحالات البسيطة من الإصابة يمكن لهم أن يعتبروا أن لا حاجة للطفل بهذه العناية المركزة. وينقلونه إلى مدارس خاصة نسبياً لكي ينجح في الدعم النفسي والاجتماعي والاندماج في المجتمع من جديد.

طالبتني العجوز التي أسكن عندها بزيادة أجرة الغرفة التي أقطنها، حجتها في ذلك أن غرفتها يقطنها الآن اثنان فادي وأنا، حملقت في وجهها المجعد الجلد، وجه شمعي بلا مشاعر، وعينان لم أتبين لونهما لحظتها، هل هما زرقاوان أم خضراوان؟ رأيتها كلب أجرب يلهث بلسان طويل، كانت تقف بباب الغرفة وتضع يدها اليسرى في خصرها، ويدها اليمنى تسند رأسها وتتكئ على الباب، أردت أن أبصق بوجهها، ولا أعلم ساعتئذ لماذا ارتفع صوت فادي بالبكاء، قلت لها: طيب اسمحي لي أن أعتني بفادي ألا ترينه يبكي؟ قالت: اسمع إما أن تزيد لي الأجرة وإما أن تغادر حالاً، دارت الدنيا فيَّ، الغضب أخذ مني كل مأخذ، أردت أن ألكمها على فمها، تخيلت ذلك بسرعة، سقطت العجوز بوهن، وفمها ينزف دماً وأسنانها الأمامية مخلعة وصارت على الأرض، جاءت الشرطة وأخذتني إلى مركز البوليس، وحملوا فادي وذهبوا به إلى مكان ما، يا إلهي، لقد جئت لأعالج فادي لا لأسبب له ولي المتاعب، أردت أن أهين العجوز وأحتقرها بأسلوب آخر، قلت لها: لحظة سأعطيك ما تطلبين، قالت ببرود: خمسون ليفا لو سمحت، مشيت أمتار داخل الغرفة والعجوز تراقبني، فتحت حقيبتي، وأخرجت كل ما معي من مال، دولارات وليفات وليرات سورية احتفظت بها لأصرفها حين عودتي إلى دمشق، حملت كل ما معي من مال بيدي الاثنتين ورميته على الأرض: وقلت لها بغضب مكتوم: خذي ما تشائين، انبهرت العجوز لرؤية الدولارات وانبهرت أكثر إذ رأت عملتنا السورية لأول مرة ربما وصارت تتأملها، قلت لها: خذي ما تشائين وانصرفي، انحنت العجوز فوق المال، للحظات مدت يدها مترددة، ثم رفعت رأسها نحوي، وبشيء من الاستجداء والتوجس، قالت: ممكن آخذ 100 دولار؟ صرخت: قلت لك خذي ما تشائين وانصرفي، وتناولت قطعة ال 100 دولار وغادرت بسرعة كلص يخشى أن يقبض عليه. 

في المساء جاءت ابنتها معتذرة، قالت: أمي تحب المال، ولديها فكرة غامضة عن غير البلغار، وهي تعتقد أن كل الناس خارج المعسكر الاشتراكي أغنياء، إنهم يسبحون في لجة الدولارات، ويملكون أرصدة كبيرة في البنوك، أما عن العرب فتعتقد أن كل عربي يملك بئر نفط وثلاثة آبار غاز، ضحكت بألم أردت أن أقول شيئاً ما، وعجزت أو  فضلت الصمت، لكن الفتاة قالتها عني: نعم  معك حق، أمي مجنونة، وتسبب لي الكثير من المتاعب مع الناس وخصوصاً أثناء التسوق، أرجوك اقبل اعتذاري، لم أرد، ثم بعد لحظات قالت: هل وجدت مركز صحي لفادي أو مستوصف، قلت وأنا مطرق الرأس: سأذهب إلى مشفى الأجانب بصوفيا، لا يحق لي وأنا سائح غير مقيم أن أدخل مؤسسات صحية تخص المواطنين البلغار، هنا شهقت الفتاة وقالت فيما يشبه الصراخ مستنكرة: لك هذا المشفى مكلف، سيحاسبونك بالدولار وليس بعملتنا الليفا، لم أرد. مرت لحظات وكل منا مطرق الرأس ثم سألتني: متى ستذهب إلى المشفى؟ قلت دون أن أنظر إليها: غداً صباحاً، فجأة أحسست بيدها على يدي قالت بكل صدق وعطف: هل تحتاجني؟ سأذهب معك، أساعدك وأحمل فادي، ويمكن أن أوضح لك بعض الاصطلاحات الطبية ببساطة من اللغة البلغارية إلى الروسية أو الفرنسية، لم أرد بقيت مطرق الرأس، وأفكر فقط متى تذهب هذه الفتاة، سحبت يدها من فوق يدي، خربشت في حقيبتها ودست في يدي 100 دولار، رفعت رأسي نحوها، قالت: أرجوك، هذه ليست مني، هذه من أمي، بعد أن شرحت لها أن ما فعلته عيب، وغير إنساني، هنا وقفت، وقلت للفتاة: ما رأيك أن نشرب القهوة معاً، لكن بشرط، ابتسمت الفتاة راضية، أقبل سلفاً ما هو الشرط؟ قلت: أن تعيدي ال 100 دولار إلى حقيبتك، ولا أريد أن أتحدث مرة أخرى عن هذا الموضوع، قالت: طيب وغداً سأصحبك إلى المشفى وأساعدك، قلت: لا، أفضل أن أكون وحدي واشكرك جزيل الشكر على نبلك وعاطفتك الإنسانية..

وذهبت إلى المطبخ لأحضر القهوة، بينما جلست الفتاة بجانب فادي، تداعب شعره بيدها، وتحاول أن تجعله يبتسم أو يضحك، وصارت تغني له أغان بلغارية، من الواضح أنها تُغنى للأطفال، ويرافقها حركات في اليدين والوجه. ثم غاب تفكيري في تحضير ما يحتاجه فادي في المشفى وتجهيز التقارير والصور والتحاليل التي أحضرتها معي من سورية..

في الصباح أيقظت فادي بالقبلات، أطعمته بعض العسل والكعك، شرب حليباً ساخناً، ألبسته ثيابه وعقلي يغيب ويحضر، قلبي يرتجف، هل هو وداع فادي الأخير؟

كنت قد اتفقت مع زوجتي أن أترك فادي في مركز رعاية صحي متقدم لرعاية المعاقين، وأعود إلى سورية، على أن نزور فادي كل سنة مرة أو مرتين، حملت فادي ونزلت الدرج الطويل، كانت الفتاة الجارة قد استيقظت وانتظرتني، أنزلت عربة فادي وحقيبته ووو

يتبع….