عبد الكريم عمرين
قبل وصول فادي بيومين أو ثلاثة إلى صوفيا، كنت أعاني من فراغ هائل، فالقراءة لا تكفي لملء فراغك، خصوصاً أنك في بلاد جديدة كل الجدة، وعليك أن تخرج من بيتك لتتعرف عليها، طبيعتها ناسها متاحفها مدنها… الخ، لكني لم أكن أرغب في ذلك كله، فمهمتي الآن هي أن أنتظر فادي ولن أسمح لنفسي أن أصرف قرشاً واحداً، أو ليفا بلغارية كوحدة نقد، فكنت أحسب مصروفي بدقة وأتوجس وأخشى ألا يكفيني المال فلا أعرف حقاً كم سيكلفني علاج فادي. كل المشاوير لترويض نفسي كانت لشارع آلابين، وكنت أتمتع في مسيري فيه، فالشباب والصبايا الذين يزدحمون في الكافتيريات والمطاعم، هم من جيل جديد، جيل غير إيديولوجي أو عقائدي، بل على العكس كنت تلمح تأثره وإعجابه بالنمط الغربي للعيش من خلال ملبسه ودخانه، أو من خلال بعض الاكسسوارات وبعض رسوم التاتو على سواعد أو أعناق بعض الفتيات.
دخلت لأستريح من عناء المسير، وأروي نفسي من عطشي وشوقي للقهوة، فدخلت إلى كافتيريا أو استراحة هي لطلاب المعهد العالي للسينما. أردت أن أتحدث إلى شخص ما أو أشخاص، فصمت بضعة أيام يجعلك بشوق لحوار مع آخر، أي آخر، فكيف لو كان الحوار مع طلاب معهد السينما؟ إنه فوز عظيم ومتعة لا تدانيها متعة، بسبب حبي للسينما، باعتبارها تنتمي إلى جنس الفن الذي يستند على أدب إبداعي. المهم دخلت تلك الكافتيريا وأنا أمني النفس بحوار رشيق وحار حول السينما والأدب والفن، أو حوار حول نظرية الأدب ومآل الواقعية الاشتراكية في السينما، وكنت أرغب أن أعرف اهتمامات الجيل الجديد وتوجهاته وانعتاقه من النظم السياسية الاشتراكية وأحلامه بصناعة فن مغاير للسائد حول البطل الإيجابي العامل الكادح في الآداب والفنون الاشتراكية الجدانوفية… لكن هيهات.. كان الشباب والصبايا غير معنيين بذلك كله، وجل اهتمامهم هو الحصول على بنطلون جينز أو علبة سجائر من نوع مالبورو، ودندنة أغاني من الراب أو ألفيس بريسلي أو ديميس روسوس، فخرجت حزيناً من الكافتيريا وأنا موقن أن نهاية الحقبة الشيوعية في العالم قد دنا أجلها، وأن افقاً جديداً ومستقبلاً جديداً لتلك البلاد بات قريباً جداً.
بعد يومين كنت في مطار صوفيا بانتظار فادي، ذهبت مبكراً إلى المطار لاستقبال فادي، وهناك كنت أدخن في أماكن خاصة للمدخنين، وأصغي السمع لإذاعة المطار التي كانت تعلن عن إقلاع طائرة من صوفيا إلى مكان ما أو وصول طائرة إلى صوفيا. كان قلبي يخفق، سألقى فادي أخيراً بعد انتظار، وألتقي بمانويل جيجي وهو صديق العمر، إذ قضينا معاً وقتاً طويلاً نسبياً في المسرح العسكري بدمشق، فمانويل كان موظفاً هناك بصفة مخرج مسرحي، أما أنا فكنت أؤدي الخدمة الإلزامية هناك، لكن صداقتنا ليست بسبب المكان الذي جمعنا وظيفياً، بل بسبب أنّا كنا على انسجام وتوافق تام في الفكر والايديولوجيا، وفي التطلعات والرؤى الفنية.
أخيراً هبطت الطائرة القادمة من دمشق، وبعد حوالي ربع ساعة ظهر مانويل يحمل فادي من بوابة الدخول ووراءه أسعد فضة نقيب الفنانين في سورية، بعد الإجراءات الرسمية والأمنية لدخول القادمين، لوحت لمانويل بيدي، وصرخت: مانو.. الحمد ع سلامتك، أنا بانتظارك. تبادلنا القبلات وشكرت مانويل من القلب وكدت أبكي للمعروف الذي قدمه مانويل لي، لكن مانويل وبعربية مكسرة نسبياً باعتباره أرمني قال لي: عبدو أنت عم تشكرني ليش؟ مو نخنا أخوة، هاد يعني أنه فادي ابن أخي وأنا عمه، يعني ابني، بقى ع شو عم تشكرني؟ عانقني أسعد فضة، وهنأته بالسلامة، وكنا على معرفة ببعض من النشاط المسرحي في سورية، لكن مانويل همس في أذني: عبدو.. فادي ريحته طالعة لازم لو حفوضة جديدة، وبسرعة ودعتهما ووضعت فادي في عربته التي اشتريتها من شارع آلابين، واستأجرت تكسي للوصول إلى البيت.
قضيت ما تبقى من النهار مع فادي في البيت، ألاعبه وأناغشه وأغني له، وكذلك فعلت في اليوم التالي، وفي المساء نفد عندي الطعام عدا الحليب والعسل.، في تلك الليلة صار فادي يبكي جوعاً وله من العمر حوالي السنتين، قلت أذهب لجارتي العجوز علها تسعفني بلقيمات، طرقت بابها، وشرحت لها الأمر باللغة الروسية، قالت لي اذهب إلى شقتك وسأوافيك بعد لحظات، قلت في نفسي يا لها من أم كريمة، ثم قلت لعلها تردّ على إهدائي لها كيلو من القهوة الكولومبية التي أهديتها لها قبل أسبوع بعد استلامي الشقة بساعات، بعد لحظات جاءت وفي يدها علبة بسكويت، قالت أترى هذه العلبة؟ قلت طبعاً. قالت: اشتري مثلها لفادي غداً، وانسحبت والعلبة في يدها، للحظات أو لدقائق حملقت في الباب الذي أغلقته، ألف خاطر جال في مخيلتي، كرهت كبار السن من النساء، لعنت الساعة التي استأجرت فيها تلك الغرفة عند هذه المعتوهة البخيلة ذات الوجه الشمعي البارد، تذكرت مؤخرتها الرجراجة المتهدلة وهي تخرج، خطر لي أن مؤخرتها ووجهها سواء، ثم انتابني حزن شديد، قلت هذه المرأة صفعتني، صفعت إنسانيتي، لا بل صفعت فادي فصرخت في إثرها: أنت مومس رخيصة أيتها العجوز الشمطاء.. وعدت لأضم فادي في ليل صوفيا البهيم.
يتبع….