عبد الكريم عمرين
لم أكن أعلم أن يوماً من أيام نيسان من عام 1987 سيكون يوماً يغير مجرى حياتي بالكلية، رغم انتظاري له بفرح، حيث انتظرنا زوجتي وابنتي رادا وأنا ذلك اليوم، لنصبح عائلة مكونة من أربعة أشخاص، وزاد حالنا فرحاً أن القادم هو صبي، ما يجعلنا نتمتع بالتوزيع المتساوي العادل للأنوثة والذكورة في تركيب الأسرة.
لم أكن أعلم، وليس ثمة مخلوق آدمي فوق هذه البسيطة يعلم، ما سيكون عليه من حال وأحوال في مستقبل حاضره القريب أو البعيد، فلو علم المقدّر له أو عليه الآتي في قابل أيامه، لعاش رعباً وقلقاً كبيراً، ولمات الأمل في قلبه أو عقله، ومات التفاؤل والعمل والسعي الحياتي. ولغابت لذة النتائج والانتصارات المعيشية على أقل تقدير، لذلك تكون جملة “لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع” صحيحة تماماً، وهي عبارة مكينة في التراث الإسلامي.
بعد أن علمنا عن طريق الإيكو، أن القادم هو صبي، صرنا نحلم ونحن سعداء ونخطط، لشراء “الديارة” لمولودنا، والديارة هي ما يلبسه الطفل بعد ولادته مباشرة، وفي العرف الاجتماعي السوري، يكون لون الملبس هو الأزرق للصبيان والزهري للبنات. كنت أنتوي أن أسمي وليَّ العهد القادم فوازاً، بينما أرادت رادا، وكانت في السابعة من العمر، أن تسمي أخاها فادي، ربما أحبت الاسم بسبب كونها قد قضت سنتي التحضيري والصف الأول في المدرسة الإنجيلية بحمص، وأحبت أصدقاءها ممن يُسمَّون فادي، وربما لأن الاسم ذاته له جرس لغوي جميل، وربما لأن معنى الاسم يحمل معاني سامية ورائعة: الفداء والتضحية في سبيل الناس، ويلفظ في مدرستها كمفردة مقدسة، تدل على الاحترام والتبجيل ليسوع المخلّص الفادي.
المهم، اختلفنا في الاختيار، رادا مصرّة على الاسم، وأمها كذلك، فهي تريد تحقيق مطلب ابنتها لتكون سعيدة بالقادم والاسم، وأنا كنت أريد له أن يحمل اسم فواز، وهي رغبة والدي، الذي كلما ولد له صبي كان يسميه، ويطلق عليه كنيته أيضاً، فأنا عبد الكريم أبو فواز، وأخي عبد الرحمن أبو طارق، ونزار أبو فاروق، وعبد السلام أبو إبراهيم وأخي محمد ابو أحمد، طبعاً وأخي الكبير بكر والدي هشام ومن الطبيعي أن يكنى باسم والده/ والدي فكان أبو عمر.
لم أكن شديد التمسك باسم فواز، واقترحته حفاظاً على تقاليد عائلتي ليس إلا. في أمسية من الأماسي، وأمام تمسك كل طرف بقراره بتسمية مولودنا، حدثت مؤامرة كبرى، فقد اقترحت زوجتي أن نجري قرعة لاختيار الاسم منعاً للديكتاتورية وممارستها في الأسرة، قالت: ألست رجلاً ديموقراطياً، قلت: طبعاً، قالت: نجري قرعة، نكتب خمسة أسماء جميلة للصبيان، نضع فيها اسمي فواز وفادي، ونختار الأسماء الثلاثة الباقية، نكتب الأسماء على أوراق صغيرة متساوية، ومطوية بعناية، ونترك رادار تسحب ورقة من هذه الأوراق، والورقة المكشوفة التي تحوي الاسم نلتزم جميعاً بالاسم المكتوب فيها، طبعاً وافقت، قلت في نفسي: وليكن، إن خرجت الورقة باسم فواز فخير وبركة، وإن كان الاسم فادي فخير وبركة أيضاً، وإن كان الاسم غير ذلك، فسأسميه فادي كما ترغب رادا وتحب، قمت أنا بتقطيع الأوراق بشكل متساو وبنوعية ورق واحدة منعاً للغش، وقامت رادا بكتابة الأسماء الخمسة طبعاً وزوجتي طوتها. جرى الانتخاب السري للاسم بمنتهى الود والحب بيننا وبشيء من التمسرح، دون مناكفات تكتيكية كما يحدث في الأوساط البرلمانية.
سحبت رادا ورقة من الأوراق التي خلطتها طويلاً أمامي بشكل متعمّد، وابتسامة خفية بخبث طفولي جميل على محياها، ثم تناولت ورقة من بين تلك الأوراق، فكان اسم فادي، ضحكت رادا طويلاً وكذلك أمها وتبادلتا القبلات والتهاني، ثم قبلتني رادا قائلة وهي تعزيني: هارد لاك بابا، وصارت تضحك طويلاً بخبث طفولي بريء، أخذتُ بقية الأوراق غير المكشوفة، فتحتُها واحدة فأخرى فتبين لي أن كل الأوراق مكتوب فيها اسم: فادي، ضحكت وأعلنت هزيمتي أمام مؤامرة لطيفة وذكية، وهكذا سمينا مولودنا فادي/ أبو عبدو.
لكن بعد مجيء فادي إلى الحياة بساعتين بدأت فصول مأساة كبيرة… ويالها من مأساة
يتبع….