عبد الكريم عمرين
شارع آلابين شارع هادئ رغم أنه شارع رئيسي ومشهور جداً، كأن تقول شارع الدبلان في حمص أو شارع أبو رمانة أو الصالحية بدمشق، لكن شوارع حمص ودمشق، وشارع الحمراء في بيروت وعواصم أخرى عربية، تمتاز بأن المارة فيها كثر، فهم يتسكعون فيها جيئة وذهاباً لساعات، أما في شارع آلابين، والشوارع الرئيسية في العواصم الاشتراكية، فهي هادئة رغم الازدحام النسبي في حركة المشاة أو السيارات، فالمشاة والسيارات فيها عابرة إلى مقاصدها. في شارع آلابين الكثير من الكافتيريات والمطاعم، التي تشغل الطوابق الأرضية والأرصفة، أو تشغل الطابق الأول في بعض المباني.
اعتذر سامر مني لانشغاله في أمر ما، وسألني بإلحاح إن كان باستطاعتي العودة إلى بيتي دون أن (أتوه) عنه، فأضطر عندها إلى الاستعانة بالبوليس، فأكدت له أن باستطاعتي العودة لوحدي فقد حفظت نقاط علّام كثيرة توصلني بأمان إلى بيتي. ودعني سامر وغادر، أما أنا فقد بقيت أمشي حتى نهاية شارع آلابين تقريباً، هناك وجدت مخزناً صغيراً يبيع كل ما يخص الأطفال منذ يومهم الأول في هذه الدنيا. دخلت المخزن واشتريت لفادي عربة دفع كبيرة نسبياً بلون كحلي، واسعة فقد انتقيتها بحيث تتسع لفادي وأشياءه التي يحتاجها، وتتسع لمشترياتي اليومية من طعام وغيره. عدت إلى بيتي أو غرفتي بعد أن اشتريت كيلو غرام من العسل قُطف من مدينة كوستنديل، وبعض الجبن والخبز الأسمر ذي الطعم الحامض قليلاً، والسكر والشاي.
في المساء جلست وحيداً أقرأ رواية كولن ويلسون “طقوس في الظلام” التي حملتها معي من حمص، وصرت أتأمل أفعال وسلوك بطل هذه الرواية واسمه جيرارد سورم. لم يكن ثمة اختراع اسمه الموبايلات ولا النت أو فيس بوك أو غيره، وكان الجوع قد بدأ بطقوس قرصاته لمعدتي الخاوية، فقمت أحضر الشاي، وذهب تفكيري بعيداً بدراسة احتمالات معالجة فادي، ووصوله إلى صوفيا، وهل سيسكت مع صديقي مانويل؟ وهل ستهبط الطائرة في صوفيا؟ أم سأضطر إلى استقباله في مدينة أخرى كبلوفيدف؟ وسمعت نقراً خفيفاً على باب غرفتي، قلت لابد أنها العجوز القميئة صاحبة الغرفة تريد شيئاً ما مني، أو تطلب مساعدة ما لأنها وحيدة وسمينة وحركتها بطيئة وثقيلة، فتحت الباب، فلم تكن العجوز القميئة هي الطارق، بل من طرق الباب، كان امرأة في أواخر الثلاثينات من العمر، نحيفة وشقراء قليلاً بوجه طفولي لكنه ميت، دون حياة تقريباً، وقصيرة القامة بعينين شاردتين وشعر يصل إلى منتصف ظهرها، كان وجهها الطفولي قد عبثت به كحل العيون والبودرة البيضاء التي توزعت على خدودها بخطوط واضحة ومتباعدة دون أن تتسق، وعلى شفتيها الصغيرتين المزمومتين حمرة فاقعة بحواف غير منتظمة. قالت لي بالروسية: مساء الخير. اسمي سنيجا، أنا ابنة صاحبة البيت هنا، يعني هذا بيتنا، أريد أن أتعرف عليك باعتبارك صرت جارنا، هل تسمح لي بالدخول؟ قلت لها: طبعاً، أهلاً وسهلاً، بكل سرور.
أرادت سنيجا أن تكسر بروتوكولات التعارف، فحدثتني عن نفسها، قالت: أنا أعمل في المخزن المركزي في صوفيا، قسم اللحوم، أعمل هناك منذ أكثر من 15 سنة، ثم نظرت إليّ طويلاً وكأنها كانت تستمع إلى حديثي لها رغم أني لم أنطق بحرف واحد، قالت: لا لم أتزوج، أنا فتاة صعبة، أقولها لك صراحة، لم أتعود أن أعيش حياة طبيعية، فرغم كل الحقن الأيديولوجية الشيوعية التي حقنتها الدولة في وريدي وإليتي، إلا أن أمي، أنت تعرف أمي أليس كذلك؟ هززت رأسي أن: نعم عرفتها، أردفت: أمي متدينة جداً، وتذهب كل أحد إلى الكنيسة، وتقرأ كل يوم في العهدين القديم والجديد، أما أنا فلا أذهب إلى الكنيسة إلا في الأعياد والمناسبات الدينية، أو مناسبات اجتماعية كالعماد، أو إكليل أو جنّاز، لا لا أنا مسيحية جداً في أعماقي ولكني أخشى أن يكتب صبيان المخابرات بي التقارير بما يؤثر على مسيرتي الوظيفية، أمي متقاعدة، وسأكون صريحة معك، أمي تعاني من مرض نفسي بسبب وفاة والدي إثر مرض عضال… هكذا أنا صريحة، طبعاً صريحة، خصوصاً، ولا أعرف لماذا أنا صريحة جداً معك، اسمع سيأتي ابنك بعد أيام، ما اسمه؟ قلت لها: اسمه فادي، قالت فادي بالعربي لكن ماذا يعني؟ قلت هو اسم من أسماء المخلص المسيح. لا أعرف لماذا قفزت سنيجا وصارت تضمني وتقبلني وتبكي، ثم قالت: سأكون معك، نعتني بفادي معاً وننتقل للعيش في القسم الثاني من شقتنا، لكن قبل ذلك يجب أن نتكلل في الكنيسة، الكنيسة قريبة جداً من هنا، وتربطنا بالخوري، قرابة عائلية، سيكللنا معاً ويعلننا زوجاً وزوجة، لكن عليك أن تختار اشبينك، أنا لدي أكثر من قريبة وصديقة لأعلن أنها اشبينتي. ما رأيك؟
أطرقت برأسي انتابتني أحاسيس شتى، أولها الاشفاق على سنيجا، وثانيها لماذا يعترضني دائماً بعض الأشخاص الذين هم مرضى نفسيون؟ وسنيجا.. ما الذي يدفعها لأن تعرض نفسها للزواج؟ هل هو أنوثتها وحاجتها لرجل، هل ذاك الحلم الواحد والوحيد والأوحد لأن تكون الفتاة أماً، أهي الأمومة؟ هل تريد أن تتخلص سنيجا من أمها؟ هل تريد أن تنتصر أمام قريباتها وصديقاتها وتقدم لهن الدليل القاطع والحاسم أنها أنثى مرغوبة ومنتصرة باستحواذها على زوج؟ وقفت وقبل أن أغادر الغرفة إلى المطبخ سألت سنيجا: هل تفضلين القهوة بالسكر أو بدون؟….
يتبع…