منصة إرادة: خليل سرحيل
لليوم السابع على التوالي، لا تزال غابات الساحل السوري تحترق. أكثر من 14 ألف هكتار من الأراضي الخضراء التهمتها النيران، رغم جهود عشرين طائرة إطفاء من أربع دول مجاورة، بالإضافة إلى فرق الدفاع المدني والمتطوعين القادمين من جميع المحافظات. نار أحرقت غابات عريقة قاومت لعقود يد التحطيب وسرقة الأخشاب، وواجهت مشاريع نظام الأسد الاستثمارية ومحاولات تطييف الأرض وتقسيمها. باتت اليوم ضحية لنيران لا تميز بين إنسان وشجرة، ولا بين طائفة وأخرى.
على خطوط النار، ترى سوريين من كل الطوائف يختنقون ويبكون وهم يقبضون على خراطيم المياه، لا يريدون للنار أن تتمدد لا في الأحراج ولا في القلوب. لكن على النقيض، يبدو الواقع على وسائل التواصل الاجتماعي موازيًا ومختلفًا ومرعبًا، حيث يشعل الكثيرون نيرانًا من شأنها هدم سوريا بأكملها، وليس فقط قرى وغابات الساحل.

حجم الكارثة
اندلعت النيران يوم الخميس الماضي في 28 موقعًا، وأحرقت حتى اليوم أكثر من 14 ألف هكتار، بما في ذلك مئات الآلاف من الأشجار. يبدو الطريق إلى كسب والبسيط وكأنه نهاية العالم، حيث التهمت النيران غابات كاملة وأحرقت قرى مثل قسطل معاف، والبسيط، والغسانية، وقرية الإيمان، وربيعة، وجبل الأكراد، وزغرين.
هذه المناطق هي مناطق عيش مشترك يسكنها سوريون من جميع الطوائف، ومعروفة بتزاوج أبنائها من بعضهم.
تمركزت قوات الأسد خلال سنوات الحرب في بعض الأراضي في المنطقة وملأتها بالألغام التي زُرعت بعشوائية يستحيل اليوم تفكيكها. كان النظام يزرعها كما يزرع الخوف بين مكونات السوريين من بعضهم. هذه الألغام زادت من كثافة النيران، وجعلت إطفاءها صعبًا في بعض المناطق، وازدادت الحرائق بفعل موجة الجفاف التي سجلت فيها سوريا أدنى معدل أمطار هذا الشتاء.
تركزت الحرائق في الريف الشمالي للمحافظة ووصلت إلى محمية غابات الفرلق، التي تعتبر من أكبر المحميات الطبيعية في سوريا ووجهة سياحية للكثيرين. قتلت النيران الكثير من الحيوانات البرية والداجنة، وهددت حياة كائنات مهددة بالانقراض مثل الغزلان والدب السوري.
تسببت الحرائق بتدمير الكثير من البيوت والبنية التحتية في المنطقة، وأدت إلى نزوح مئات العائلات من قراهم بعد احتراق مواسمهم الزراعية. الزراعة هي مصدر الدخل الأساسي لريف المحافظة، وقد أحرقت النيران أشجار الزيتون والكرز والتفاح والتين.
وسيسبب هذا الحريق لاحقًا تأثيرًا كبيرًا على الاقتصاد السوري وسيزيد من نسبة استيراد المواد الغذائية. تأتي هذه الكارثة في ظل تحذيرات سابقة من الأمم المتحدة بأن أكثر من 16 مليون سوري معرضون لانعدام الأمن الغذائي، مما يجعل أي تدهور في الزراعة المحلية ينبئ بكارثة كبيرة.

جهود إطفاء بلا انتماء طائفي
تدخلت تركيا والأردن للمساعدة عبر إرسال طائرات لإطفاء النيران وفرق تعمل على الأرض. كما تدخلت للمرة الأولى دولة قبرص وأرسلت طائرات للمساعدة في إخماد الحريق. وفي خطوة غير معتادة، شوهد وزير الطوارئ والكوارث، رائد الصالح، في مواقع الحريق إلى جانب عناصر الدفاع المدني، في تصرف لم يشاهده السوريون في سنوات الحرائق التي تتكرر كل عام.
خرجت أصوات أعلنت النفير العام لإطفاء الحرائق، ووصل إلى الساحل صهاريج مياه مع متطوعين من محافظات سورية بعيدة، كإدلب ودير الزور ودرعا، للمساعدة في إطفاء الحرائق. ولم تمنع قرارات فصل سابقة عشرات من موظفي فوج إطفاء اللاذقية من التطوع للعودة إلى الميدان، مستفيدين من معرفتهم بجغرافيا المنطقة وخبرتهم الطويلة في التعامل مع الحرائق.

خطاب كراهية يوازي ألسنة النار
تبدو هذه الحرائق اليوم انعكاسًا لحرائق أخرى تشتعل في نفوس كثير من السوريين وما يعتقدونه عن طوائفهم ومناطقهم. وقد نسي قسم منهم ما هو العيش المشترك، وما هو تعريف الغابات التي لا تتبع لدين أو طائفة أو حزب.
بينما كان سوريون من مختلف المحافظات والطوائف يحاولون حرفيًا إطفاء النيران بأجسادهم، وفيما نزلت دموع الرجال على زرعهم ومواسمهم، بدت الحرب الكلامية على الإنترنت أكثر ضراوة من النيران ذاتها.. كوميديا سوداء، الجميع يتهم الجميع بافتعال الحريق، الجميع يشمت بالجميع، الجميع يجمع “لايكات” و”إيموجي أضحكني” ونقاطًا سياسية.
كان البعض على وسائل التواصل الاجتماعي لا يتردد بالسؤال عن الخلفية الدينية للقرى المحترقة. بل ذهب بعضهم إلى وصف الحريق بـ”نار جهنم”، في “تجريد كامل للمأساة من إنسانيتها”. فالمفارقة أن معظم هذه القرى تحتضن مكونات طائفية مختلطة يستحيل فيها أن تلتهب النيران بالضحايا حسب لونهم الطائفي.
يوم الاثنين، سارع فصيل “أنصار السنة” تبني الحريق، زاعمًا أنه يستهدف قرى العلويين. بعد يومين من بيان أنصار السنة، خرج بيان مناهض من “درع الساحل” يتبنى فيه حرق مناطق قسطل معاف لأن سكانها من السنة. وللسخرية، كل هذا يحصل ونحن نتابع أخبارًا عن حصول محادثات سلام بين سوريا وإسرائيل.
هل سنكون ناجين أم ضحايا؟
يبدو الوقت مبكرًا للتأكد من الفاعل، هل هي الطبيعة أم بفعل فاعل؟ لكن ما نستطيع تأكيده أننا جميعًا سندفع ثمن هذا الحريق. حتى الأطفال الذين لم يولدوا بعد سيدفعون ثمن هذا الحريق وغيره الذي يحول السوريين إلى ضحايا مستسلمين: ضحايا للنار والرصاص والحرائق، وضحايا للفهم الخاطئ والتعصب والطائفية. فهل سنكون ناجين أم ضحايا؟
في البارحة خرجت صيحات لقتل أهل الساحل، واليوم خرجت صيحات لإطفاء حرائقهم. يا ترى، هل نحتاج حقًا إلى الكوارث كي نتقرب من بعضنا كمجتمعات أصيلة؟ أم أن هناك طرقًا كثيرة ثقافية واجتماعية لكنها بحاجة إلى خطاب أوسع تتبناه الحكومة المؤقتة، لعلها تقطع الطريق على الحاقدين الطائفيين الذين لا يريدون للسوري العيش بكرامة حقيقية ومواطنة فعالة.
الحرائق لم تكشف هشاشة البيئة السورية فقط، بل هشاشة العقد الاجتماعي بين مكوناتها. وبين من يطفئ النار بإرادته، ومن يشعلها بلغة الحقد. تبقى الحقيقة أن الوطن يحترق، وأن أبناءه، مهما تفرّقوا، سيواجهون مصيراً مشتركاً، النار أو النجاة؟.