الإرادة

جيش سوريا الأبيض: نزيف الكفاءات الطبية المستمر

منصة إرادة- مادلين جليس

في قلب الأزمة السورية، تتجلى مأساة لا تقل قسوة عن القصف والدمار: نزوح “جيش سوريا الأبيض”. إنهم الأطباء الذين أقسموا على إنقاذ الأرواح، لكنهم وجدوا أنفسهم في مواجهة خيارات مستحيلة.

“لا أحد يعرف عدد الأطباء الذين غادروا سوريا منذ بدء الاحتجاجات عام ٢٠١١ لكنني أؤكد أن كل زملائي في كلية الطب أصبحوا الآن موزعين على الدول العربية والغربية على حد سواء”. بهذه الكلمات، يصف الدكتور لؤي زرادة، أخصائي أمراض النساء، المشهد الطبي السوري. رأيه لا يختلف عن كثير من الأطباء السوريين الذين بقوا في سوريا خلال العقد الماضي، وهو يعكس واقعاً مريراً لبلاد فقدت عصبها الطبي.

مع انطلاق أول رصاصة، ومع تسجيل أول حالة وفاة لسوري على يد سوري آخر، وجد الأطباء أنفسهم أمام معضلة أخلاقية لا تحتمل. فبينما كان قسمهم يحتم عليهم تقديم الرعاية لكل مريض دون تمييز بهويتهم أو انتمائهم أو حتى طائفتهم، أجبرهم الواقع على التمييز، ومارسوه قسرًا. هذا التناقض المروع جعل قسمهم “ينخر في قلوبهم”. حزموا أمتعتهم، وحملوا شهاداتهم وأحلامهم بافتتاح عياداتهم في وطنهم، ليقدموها للمستشفيات الغربية والخليجية، تاركين خلفهم فراغاً لا يمكن سده.

الأطباء، الذين كانوا مصدر العلاج والأمان الصحي، تحولوا إلى أهداف أو لاجئين. هذا النزوح لم يكن مجرد هجرة عقول، بل هو تفكيك لركيزة أساسية من ركائز المجتمع، ترك وراءه ندوباً عميقة؛ فالعواقب طويلة الأمد، من انخفاض متوسط العمر المتوقع إلى ارتفاع معدلات الوفيات، قد تكون مدمرة بقدر الحرب نفسها.

التفكك: أطباء على مفترق صراع

إن نزوح الأطباء السوريين ليس مجرد ملاحظة باردة لظاهرة يدركها كل السوريين؛ بل هو قصص إنسانية مؤلمة عن اليأس والخيارات المستحيلة.

لم يهرب الدكتور منير شماس من بلده بسبب الاحتجاجات، ولم يتعرض لمضايقات لا من قبل أفراد النظام السابق ولا حتى من قبل الثوار، لكنه فرّ هارباً من سوء الوضع المادي، ومن القوانين التي حتّمت عليه كطبيب أن يعمل في مستشفيات الدولة لمدة عشر سنوات، ويعلق شهادته على الحائط مقابل مبلغ ٤٠٠ ألف ليرة سورية، لا تكفيه أجرة طريق من منزله للمستشفى وبالعكس.

أما طبيبة الأسنان إسعاف ياسر، فلم تستطع تحمّل ساعات العمل الطويلة ضمن مستشفى حكومي، مقابل أجرٍ زهيد، في حين أن زميلاتها وزملاءها ينعمون بدوام مريح نسبيًا وأجر عالٍ مقارنة بأجرها، إضافة إلى الحياة الكريمة التي يعيشونها في بلاد الاغتراب. تؤكد الطبيبة إسعاف أنها لم تعد تستطيع تحمّل ذلك في ظل بُعد منزلها عن المستشفى، ومسؤوليتها في رعاية أبنائها الذين باتت تراهم بالساعات القليلة، على حد وصفها. في عيادتها الخاصة لم يكن الأمر أفضل من ذلك بكثير، فسوء المعيشة انعكس على عملهم أيضاً. تفتح دفتراً أسوداً كأنه دفتر مواعيد وتقدمه لي قائلة: “كل اسم مكتوب بجانبه “مجاناً”، هو لشخص فقير غير قادر حتى على دفع أجرة المعاينة، فما بالك بثمن الدواء أو مثلاً العمل الجراحي إن اضطر الأمر؟”. حديثها يذكر بالعبء الأخلاقي الذي واجهه الأطباء الذين قرروا البقاء أو الذين لم يستطيعوا الهرب، مع العلم أن كثيراً من الأطباء الآخرين لم يملكوا مثل هذا الدفتر الذي يسجل العلاج المجاني.

أمة بلا معالجين: حجم الكارثة

يبدو حجم نزيف العقول الطبية من سوريا مذهلاً؛ فقد كان في سوريا حوالي 77,000 طبيب في عام 2009. اليوم، تختلف التقديرات، لكنها جميعاً تشير إلى خسارة كارثية: فقد ذكرت لجنة الإنقاذ الدولية (IRC) في عام 2021 أن حوالي 70% من القوى العاملة الطبية في سوريا قد فرت من البلاد. كما يشير تقريرها نفسه إلى أن هناك طبيباً واحداً فقط لكل 10,000 شخص. وبحسب تصريحات رسمية، غادر ما يقدر بنحو 25,000 طبيب سوريا بين عامي 2011 و2022.2 إلا أن الرقم الحقيقي يبدو أكثر من ذلك بكثير، خاصة مع عدم قدرة نقابة الأطباء على التواصل مع عدد كبير من الأطباء الذين هاجروا بطرق غير شرعية.

وبحسب نقيب أطباء دمشق في تصريح سابق، فإن عدد الأطباء الكلي في سوريا اليوم لا يتجاوز 45 ألف طبيب فقط، على الرغم من أن كليات الطب تخرج سنوياً حوالي ألف طالب وطالبة. هذا يعني أنه من المفترض أن تضم سوريا بحلول العام 2025 حوالي 94 ألف طبيب، فلنا أن نتخيل حجم النزوح الطبي من سوريا إلى كل العالم.

تخصصات في غرفة الإنعاش

لم يكن نزيف الكفاءات الطبية موحداً. تشمل التخصصات الأكثر تضرراً التخدير وزراعة الكلى والتشريح والإنعاش والطب الشرعي، حيث شهدت بعض هذه المجالات انخفاضاً في الكوادر بنسبة تصل إلى 75%. وتشمل النقص الحاد الأخرى التي تم تحديدها أمراض الرئة والطب النفسي وطب الأعصاب والعناية المركزة (بما في ذلك العناية المركزة للأطفال) والتوليد.

يواجه المرضى الذين يعانون من أمراض مزمنة، بما في ذلك السرطان والسكري وأمراض القلب، وضعاً مأساوياً مع انقطاع شديد في العلاج، وغالباً ما “لا يجدون مكاناً يلجأون إليه”. وقد انهارت صناعة الأدوية السورية التي كانت مزدهرة في السابق، مما أجبر المرضى على شراء الأدوية الأساسية، مثل الأنسولين، بأسعار مبالغ فيها من الدول المجاورة.

هذا الوضع يخلق تناقضاً صارخاً: فسورية، التي كانت في يوم من الأيام منتجاً للمواهب الطبية، تعتمد الآن على بعثات طبية خارجية ومؤقتة لإجراء عمليات جراحية كان بإمكان شتاتها الطبي القيام بها. ففي شباط الماضي، وصل فريق طبي قطري مكون من اختصاصيين بجراحة القلب، ليجري حوالي 80 عملية قسطرة قلبية وإصلاح تشوهات القلب عند الأطفال، على الرغم من أن أمهر وأشطر اختصاصيي جراحة القلب في العالم هم سوريون، إلا أن “السكافي حافي”.

من حيث البنية التحتية، كانت سوريا تضم 104 مستشفيات حكومية بإجمالي 20,305 سريرًا في عام 2010، بالإضافة إلى مستشفيات متخصصة عامة وخاصة. وكانت القوى العاملة الطبية كبيرة، حيث بلغ عدد الأطباء حوالي 77,000 في عام 2009.
خلف هذه الأرقام الواعدة، كانت هناك شروخ عميقة. فقد كان الوصول إلى الرعاية الصحية غير متكافئ بشكل صارخ بين المناطق الحضرية والريفية وكانت المرافق العامة غالبًا ما تعاني من ضعف الجودة والفساد، ولم يكن هناك نظام تأمين صحي وطني.

الشتات العالمي: "ادفعوا وسافروا"

في المقابل، لم تنجح دعوات الأطباء في عدد من المؤتمرات الطبية ونداءاتهم للحكومة بضرورة تشكيل لجنة عليا لدراسة أسباب هجرة الأطباء، خاصة جيل الشباب، بهدف الحد من هذه الظاهرة. لم يبدُ حتى أن عين الحكومة في عهد النظام السابق قد رفّت إزاء هذا النزيف، بل يبدو أنها زادت الطين بلة حين ضاعفت ساعات الدوام للأطباء، بحيث منعتهم من الاستفادة من شهاداتهم في القطاع الخاص لتحسين أوضاعهم المعيشية.

الأمر الذي جعل كثيرين منهم متأكدين أن هذه الإجراءات الحكومية ما هي إلا سياسة خنق وتطفيش لهؤلاء الأطباء، ليدفعوا الدولارات مقابل سفرهم للبلدان الأوروبية التي فتحت أبوابها أمامهم، وخاصة ألمانيا.

“من بين عشرة متدربين على اللغة الألمانية، يوجد ثلاثة أو أربعة أطباء”، يؤكد أيهم جباعي الذي بدأ حديثاً دورة لغة ألمانية تمهيداً لسفره إليها بعد استكمال أوراقه وتعديل شهادته، ليجد فرصته في البلد التي استقبلت مليون لاجئ سوري، منهم أكثر من 6000 طبيب يعملون في مختلف المؤسسات الصحية الألمانية.

وهذا ما تؤكده الطلبات التي قدمها الأطباء للسفر إلى الخارج مع تفاقم سوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، والتي وصلت العام الماضي إلى 465 طلباً، بحسب رئيس فرع نقابة الأطباء في دمشق سابقاً، والذي بيّن أن 261 طبيباً منهم غادروا البلد باختصاصات متنوعة منها الأطفال والعصبية والجلدية والنسائية والتخدير، وبقي 195 في انتظار سفرهم، مشيراً إلى أن غالبية من سافر من الأطباء هم خريجون جدد أنهوا جميع تخصصاتهم.

قُتل 945 فردًا من الكوادر الطبية منذ عام 2011، 93% منهم على يد الحكومة السورية أو حلفائها. كما تم اعتقال أو إخفاء الآلاف قسرًا: 3,364 عامل رعاية صحية بحلول عام 2021، مع مسؤولية النظام السوري عما يقرب من 85% من هذه الحالات.

منظمة أطباء بلا حدود

شروط العودة:

إن احتمال عودة الأطباء السوريين معقد، ويعتمد على مجموعة من العوامل التي تتجاوز مجرد وقف النزاع المباشر. وقد أدى سقوط نظام الأسد إلى توقعات بانخفاض عدد الراغبين بالهجرة من الأطباء، وربما عودة البعض.2 ومع ذلك، لا توجد أي مؤشرات على ذلك، فلا يزال الكثيرون يراقبون الأوضاع الاقتصادية والسياسية والطبية والأمنية بحذر، وينتظرون ظهور إصلاحات ملموسة وظروف محسنة قبل المخاطرة.2

وبحسب مصدر في وزارة الصحة “فضل عدم ذكر اسمه”، فإن حال الأطباء في المستشفيات الحكومية سيء جداً مقارنة بالأطباء في المستشفيات الخاصة وبالأطباء في الدول الأخرى أيضاً، خاصة أن الوضع الاقتصادي لا يشجع أحداً على استنزاف وقته وشهادته وعمره دون مقابل، أو بأجر زهيد.

وبيّن المصدر أن السياسات الحكومية التي كانت متبعة في عهد النظام السابق كانت طاردة للأطباء، على الرغم من تغنيه المستمر بنظرية المؤامرة وسياسة تفريغ سورية من كوادرها الطبية.

أما اليوم، فلم تصبح الفرصة مواتية بعد لعودة الأطباء من الخارج، كما يؤكد المصدر، خاصة في ظل انهيار النظام الصحي، وعدم تحسن سلم الرواتب والأجور، والنقص الهائل في المعدات والأجهزة الطبية.

إضافة إلى الضبابية التي تشوب المشهد السوري، والتي لا تشكل بيئة عمل جيدة للأطباء، خاصة ممن اعتادوا على بيئة عمل

منذ أن أطلقت أول رصاصة في سوريا عام 2011، لم تكن الحرب مجرد صراع على الأرض، بل كانت حربًا صامتة على شريان الحياة في البلاد: نظام الرعاية الصحية. هذا التقرير يغوص في أعماق المأساة التي حلت بـ “جيش سوريا الأبيض” – الأطباء والممرضين والمسعفين – الذين وجدوا أنفسهم بين مطرقة العنف وسندان الانهيار الاقتصادي، مما دفع الغالبية العظمى منهم إلى الفرار. تحولت مستشفيات سوريا إلى أطلال، وتخصصاتها الحيوية تعاني نقصًا كارثيًا، وعادت أمراض كنا نظن أنها طويت صفحاتها. بينما يجد الأطباء السوريون ملاذًا وفرصًا في الخارج، خاصة في ألمانيا، فإن هذا النزف المستمر في الكفاءات لا يهدد الحاضر فحسب، بل يرسم مستقبلًا قاتمًا، ما لم تبدأ الحكومة بجدية بإعادة بناء ما دمرته سنوات الصراع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *