الإرادة

جرح من الماضي.. ما زال ينز هنا

عبد الكريم عمرين

ثلاث حبات من البطاطا ونصف كيلو لبن، هكذا أجبت الجندي المدجج بالسلاح وابتسامة خبيثة تعبر عن التشفي والحقد والتهديد، عندما سألني: شو فيه معك؟

كنت عائداً من حمص المدينة، حيث تسكن ابنتي، إلى حمص الوعر، حيث أسكن أنا، وكنت حريصاً على ألا أشتري الكثير من الطعام لأسرتي حتى لا أسمع كلاماً بشعاً من الجنود على حاجز الشؤون الفنية من المدخل الغربي الشمالي الوحيد للوعر. وقد حرصت على أن أوزع دواء فادي في جيوبي، وفي جواربي، بعدما رميت بالعلب الكرتونية التي تغلفه حتى لا تأخذ حجماً كبيراً لافتاً في تلك الجيوب، ولهذا اشتريت ثلاث حبات من البطاطا ونصف كيلو لبن. وقفت أمام بائع الخضار طويلاً متردداً، ماذا أشتري؟ وأتمنى لو أحمل كل محتويات دكان الخضرجي وآخذها معي، إنها ثروة حقيقية، ستطعم العشرات من الأسر الجائعة والمحاصرة في الوعر، خصوصاً تلك الأسر التي لديها أحد المطلوبين من قبل الأمن السوري، ولا يستطيع أفرادها النزول إلى حمص. وكثيرون جداً من الناس الذين لم يتبق عندهم أي مخزون للطعام، فلجؤوا لأكل الخبيزة وأوراق الشجر، أو بعض الخضار التي حصدوها بعد زراعتهم لها في حدائق منازلهم، أو حدائق الشوارع أمام بيوتهم

اللوحة للفنانة التشكيلية السورية ميريام سلامة

وقفت أمام بائع الخضار أتأمل وأفكر، وطبعاً مرفوض بالقطع شراء الموز أو الفواكه، سيتهمني الحاجز بالبرجوازية والرفاهية وبأنني أهرّب الفواكه إلى المسلحين، فأغيب في أحد المعتقلات أو أحد السجون. قلت أشتري بامية أو بازلاء، لكن ماذا لو لم نستطع طبخها في أيام ثلاثة أو خمسة لانقطاع التيار الكهربائي؟ سوف تفسد بالتأكيد. هنا قررت أن أشتري البطاطا، فهي تفسد بعد وقت طويل يمتد لأيام وربما أسابيع. ثم احترت في أمري بتحديد كمية البطاطا التي أنتوي شراءها، فقررت أن أشتري 3 كيلو منها، أووووه 3 كيلو كثير، ربما يصدرون حكم الإعدام عليّ بسببها، فهي كمية ضخمة باعتقادهم. قلت: طيب سأشتري 1 كيلوغرام فقط، وبعد أن وضعتها في كيس وعلى الميزان حزمت أمري واكتفيت بثلاث حبات منها، نعم ثلاث حبات كمية زهيدة ولن يحاسبني عليها جنود الحاجز. وهذا التردد والحيرة والتفكير والتمحيص تكرر حين شراء اللبن، إلى أن انتهيت إلى شراء نصف كيلو، نعم نصف كيلو لبن كمية هزيلة، سنبدأ بالتهامها عند الغداء فقط، سندهن الخبز منها ونرش فوقه القليل من السكر، فوجبة واحدة كهذه ستكفينا لأيام خمسة إذا تمت برمجة طعامنا بالتقنين الشديد.
بعد انتظار لأكثر من ساعتين جاء دوري للتفتيش، وقفت أمام الجندي القصير الذي رمقني بنظرات ثابتة دون أن ينبس بحرف، وصار يثبت نظره في عيني، ثم في رقبتي، ثم ابتعد خطوة إلى الوراء وصار يتأملني ويتذكر ويُشعرني أنه عرفني أخيراً، بهز رأسه ببطء، وكأنه اكتشفني من الإرهابيين، أو العصابات المسلحة، ثم تقدم نحوي وطلب هويتي. بقلب واجف مددت يدي إلى جيب قميصي، ناولته الهوية، فرماها إلى جندي يجلس وراء طاولة بقربه: فيشوه. يا رب السماوات، هذه كلمة واحدة تمزق نياط القلب، فيمكنهم أن يعتقلوك على الحاجز بفيش أو بدون فيش، لا فرق، يعتقلونك لأنك تبتسم، أو لأن نوع دخانك لا يعجبهم، أو لأن زوجة الجندي لم تسمح له في الليلة السابقة أن يندس في فراشها، لا يهم أن يكون هناك سبب لاعتقالك، هناك في الأقبية يفصلون لك تهمة، يلبسونك تهمة جاهزة، فعندهم التهم جاهزة وتفصيل.
وبانتظار نتيجة التفتيش، سألني: شو معك بالكيس الذي تحمله؟ وبعبارة عفوية الخاطر قلت له: لا شيء، ثلاث حبات من البطاطا ونصف كيلو لبن. هنا انتفض الجندي القصير وأرغى وأزبد وصار يصرخ: وعم تكذب كمان؟ قلت له متردداً: لا لم أكذب، أقول ثلاث حبات بطاطا ونصف كيلو لبن، عدّها إن أحببت. بدأ يصرخ: كيف تقول لا شيء، ثم تقول بطاطا ولبن؟ شايفني حمار أمامك؟ أنت تسخر منا؟ قلت له: عفواً أخي الكريم، كلمة لا شيء قصدت بها أنها كمية قليلة جداً ولا تستحق. وانتفض مرة أخرى: بالأصل قلنا لكم إدخال الأطعمة ممنوع، أنتم البيئة الحاضنة للعصابات الإرهابية المسلحة، تعطونها لهم، عد من حيث أتيت ممنوع إدخال الطعام.
هنا أحضر جندي آخر هويتي، وقال للجندي القصير: ليدخل إلى الوعر، ما عليه شي. بعد أن وضعت هويتي في جيبي وأردت أن أخطو لأجتاز الحاجز دخولاً، أوقفني الجندي القصير: ممنوع، عد من حيث أتيت، فما زلتَ تحمل الطعام. قلت له: أرجوك، هذا طعام لشخص واحد أو شخصين. هنا خطف الجندي القصير كيس الطعام من يدي ورماه بعيداً، وبكل صلافة: هلأ فيك تدخل، أو روح لُمّ كيسك من الأرض وارجع. كم تمنيت أن أمسك بخناق هذا الوغد، لكن دواء فادي هو الأهم.

عبد-الكريم-عمرين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *