شذى حمشو
دائماً ما كانت تخاف تلك المواجهة الحاسمة بين حلمها وعجزها، وكيف يمكن لثقل خطواتها المحملة بالألم أن تتيح لها الاستمرار في العمل خارج المنزل، ولكن بعد أن طاردتها لعنة الأوجاع وأصبحت على خطا قليلة من الشلل، اضطرت أن تتناسى حلمها شيئاً فشيء، وبعد أن كان العائق أمام تقدمها هو عدم إيمان المجتمع بها، أصبح العائق الأول أمامها هو خذلان صحتها لها… توقفت عن انتظار تحقيق الأحلام وبعد ذلك توقفت عن انتظار حدوث المعجزات… وما عادت تنتظر سوى بعض مساعدات تأتي أو لا تأتي بين حين وآخر.
تعيش رندى أبو خير في السويداء، تمر أيامها ثقيلة، تحاول أن تتعايش مع حياة قاسية وأوضاع مادية صعبة، كما الكثيرين في هذا البلد المتألم، ولكن يبقى العجز هو المتحدث الأقوى في هذه الظروف، خاصة وأنها أم لطفلتين إحداهما من ذوي متلازمة داون.
ربما يكون من السهل تخيل كم الصعوبات لتأمين حياة كريمة “ضمن الحدود الدنيا” في سورية اليوم، لكن من الصعب تصديق أن الآلاف مثل رندى يتركون لمواجهة هذه الصعوبات وحيدين، يعانون من مزيج من الألم الجسدي والنفسي يستحيل وصفه، لتتوقف حياتهم على التبرعات الخيرية المحدودة. في حين يبدو أن الجمعيات الأهلية تحمل عبئاً فوق طاقتها وتتشتت جهودها في فوضى عارمة يبدو أنها لا تستثني أي قطاع ولا أي مدينة في الجغرافية السورية المنكوبة بالحرب والفقر … والمرض.

فإن كان بعد السويداء عن العاصمة قد سبب الإهمال الإداري لشؤون ذوي الإعاقة في المحافظة، فنحن أمام مشكلة كبيرة تستوجب حلولاً جذرية وإن كان السبب يتوقف عند ضعف الإمكانات المادية وقلة الموارد المالية للجهات الخيرية فيها، فنحن أمام مشكلة أكبر لأن من المفترض وجود ميزانيات وخطط مخصصة تؤمن لهم حياة كريمة، بمعزل عما يمكن أن تساهم به الجهات الخيرية التي يفترض أن يكون دورها داعماً وليس أساسياً.
ويؤكد مدير الجمعية السورية للمعوقين نزار شجاع أن الجهات المعنية بشؤون المعوقين قد تخلت بشكل أو بآخر عن واجباتها موضحاً أن الحمل أصبح ثقيلاً على الجهات الأهلية وأن من الواجب على المعنيين على أقل تقدير تأمين الأمور الأشد إلحاحاً وهي “المستلزمات الحركية والأدوية وحفاضات العجزة باعتبار هذه الاحتياجات الأساسية هي الأعلى تكلفة والأكثر استخداماً واحتياجاً” . ويضيف شجاع أن الموارد المالية للجمعية محدودة لأنها مرهونة فقط بالتبرعات الإنسانية التي تتضاءل في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة والغلاء الفاحش الذي لم يرحم مستلزمات ذوي الإعاقة الجسدية.
حسب دراسة أجراها برنامج تقييم الاحتياجات الإنسانية عن وضع الإعاقة في سورية عام 2020، تبين أن واحداً من كل أربعة سوريين يعانون من الإعاقة. في محافظة السويداء، قدرت الدراسة أن 23% من النساء و27% من الرجال فوق 12 عاماً يعانون من الإعاقة.
ماهر أحد هؤلاء الذين حكم عليهم بالعزلة في غرفهم المعتمة وأحلامهم الضيقة، ليس بسبب عجزهم، بل بسبب عجز المجتمع عن دعمهم فهو يعاني من الشلل ولا يستطيع الخروج من بيته، يقول ماهر “أصبح جل طموحي كرسي متحرك أتجول به لأستنشق قليلاً من الأكسجين، ولكن قدرتي المادية محدودة وحياتي متوقفة على المعونات”.
ويبلغ سعر الكرسي المتحرك العادي حوالي مليون ليرة سورية… فيما يبلغ الكهربائي إن وجد حوالي السبعة ملايين. وهناك قائمة من المعدات الطبية والمستلزمات الضرورية التي يعاني ذوو الاحتياجات الخاصة يومياً لتأمينها.
هذه المعاناة لا يعرفها إلا من يعيشها، فها هو فداء يحكي كيف أن أكبر كوابيسه هي أن لا يستطيع تأمين حفاضات العجزة لوالدته، وكيف أن هذا التفصيل الذي قد لاينتبه له معظم الناس هو هاجسه الذي يتجدد كل شهر في محاولاته المتكررة لتأمينه بشكل مجاني أو بسعر رمزي.
ويبدو أن السؤال عن الحلول المتوفرة قادمٌ من عالم آخر في وقت لا تتوافر فيه الإحصاءات والبيانات عن وضع ذوي الإعاقة، وينوه مدير الجمعية السورية للمعوقين إلى عدم وجود إحصائيات دقيقة لدى الجهات المعنية عن عدد المعوقين في المحافظة إضافة لعدم الفصل بين أنواع الإعاقات مما يؤخر وصول الجهات الأهلية للمعوقين بحسب اختصاصاتها وإمكانياتها.
وحسب دراسة أجراها برنامج تقييم الاحتياجات الإنسانية عن وضع الإعاقة في سورية عام 2020، تبين أن واحداً من كل أربعة سوريين يعانون من الإعاقة. في محافظة السويداء، قدرت الدراسة أن 23% من النساء و27% من الرجال فوق 12 عاماً يعانون من الإعاقة. وربما تكون الإعاقة الحركية هي أكثر الإعاقات انتشاراً كنتيجة لإصابات الحرب

ويطالب المجتمع الأهلي بتأمين “راتب جزئي” للمعوقين الذين ليس لديهم معيل، خاصة في ظل فرص العمل النادرة ونسب التوظيف القليلة علماً أن حتى القادرين على الالتحاق بالوظيفة فإن رواتبهم غير كافية لتأمين مستلزمات الحياة الأساسية، وهاهو (تميم عبيد) الذي قد يعتبره البعض محظوظاً لأنه يعمل في وظيفة حكومية، يقضي يومه متجولاً على كرسيه المتحرك ليبيع بعض البضائع في الأماكن التي يتاح له فيها ذلك، لأن راتبه لا يكفي لسد حاجات أسرته.
وأشار رئيس مجلس الإدارة في جمعية الوفاء لذوي الإعاقة في السويداء خالد العياش والتي تغطي خدماتها وفق استطاعتها عدد كبير من المستفيدين، إلى ضرورة دمج ذوي الإعاقة بشكل أكبر في المجتمع من خلال العمل على زيادة فرص العمل والرواتب المقدمة لهم بأكبر قدر ممكن منوهاً إلى خدمات الجمعية في تأهيل الأطفال منهم لتحسين وضعهم الصحي وبالتالي تطوير قدرتهم على العمل.

من جهته، أشار السيد شجاع إلى ضرورة إصدار بطاقة إلكترونية لكل معوق تكشف عن وضعه الصحي ومتطلباته مع إمكانية شحنها برصيد مالي أو ضمان صحي تسهل عليه الحصول على المساعدة دون وضع احتياجاته في إطار الصدقات فقط، إضافة إلى ضرورة دعم المشاريع الصغيرة لذوي الإعاقة وتأسيس سوق دائم لهم في مكان مناسب لضمان إشراكهم في سوق العمل.
في النهاية الاحتياجات كثيرة جداً، والواقع مزر جداً والحلول الجذرية باتت أمراً مستعجلاً، فمن المؤلم جداً أن تُرمى احتياجات الإنسان الأساسية تحت مظلة الأعمال الخيرية وأن يتم تجاهل كونها جزءاً لا يتجزأ من حقوق الإنسان الواجب حمايتها.