منصة إرادة- مادلين جليس
هل تغير شكل الشمس، أم اختلف لون السماء؟ هل أصبح الهواء منعشاً أكثر، أم اتسعت الطرقات؟ ما الذي تغيّر حتى بدت الابتسامات أكبر والوجوه أجمل، وحتى العيون أصبحت أوسع؟ نعم، إنها سوريا، تتنفس من جديد….
يبتسم ماهر وهو يشير للسماء مخاطباً زوجته: الآن حدودنا السماء.
تشعر شهد الريس بالفرح الكبير، وعلى الرغم من أنها لم تعرف قاسيون من قبل، إلا أنها كانت تشعر بالشوق له، بسبب الصور التي كانت تتحدث عنه والحكايات التي تصف روعة دمشق منه.
لا يملك عامل بسطة الشاي والقهوة أيمن العبد الله إلا الابتسامة أمام سؤالنا عن شعوره، وهو المحروم من هذا المكان أربعة عشر عاماً كاملة، أربعة عشر صيفاً، وأربعة عشر شتاءً، ومثلها من فصول الربيع التي أزهرت فيها غوطة دمشق وتفتحت أزهارها، وارتفعت أشجار السرو في قمة الجبل أكثر، دون أن يتمكن أيمن من تقديم قهوته للزوّار الذين كان أغلبهم يقصده بالاسم.
انتقلت هنادي الهرسة مع عائلتها من دير الزور إلى دمشق في عام ٢٠١٤، عشر سنوات سكنت دمشق في قلبها كما سكنت هي أحيائها، لكنها تصف أن اللحظة التي رأت فيها هذه المدينة من فوق سفح قاسيون كانت تعادل الأعوام العشرة التي قضتها في دمشق والتي وصفتها بأنها أجمل مدن العالم على الإطلاق.
من جتها تقول فاطمة: “عشت في السعودية، وانتقلت للإمارات، لكن دمشق هي الأجمل، وجبل قاسيون هو أجمل وأروع ما في دمشق”.
لم يعد جبل قاسيون مكاناً للعشاق فقط، بل عاد ليكون مكاناً لطلب الرزق، من أصحاب المنتزهات الصغيرة التي وضعت بضع طاولات، وبضع كراسي ليتمكن الزائرون من الجلوس عليها، والاستمتاع بالمناظر الخلابة مع كأس من الشاي أو فنجان من القهوة.
ولعل أجمل ما صادفنا في هذا المكان هو محمد الذي لم يتجاوز العشرة أعوام، وهو يقف إلى جانب والده الذي يملك عدداً صغيراً من الطاولات والكراسي التي خصصها لمن يرغب بتذوق قهوته المتواضعة. بدا محمد فرحاً بهذا العمل الجديد والغريب بالنسبة له، لدرجة أنه أقام مع والده وأخيه في هذا المكان لثلاثة أيام متتالية، محتملاً البرد الذي يبدو على أشده في هذه المنطقة المرتفعة.
في كل عام، يستغل علاء حمود إجازته ليقضيها مع عائلته في سوريا، يزور الأقارب والأهل، ويعود إلى فرنسا مكان عمله محمّلاً بأشواقهم وحبهم. هذه المرة سيكون للعودة طعم مختلف، فقد ضمت زيارة الأهل، زيارة لجبل قاسيون، وسينضم الجبل إلى قائمة الأشواق التي سيحملها في قلبه، والتي ستكون زاد المحبة في غربته، لحين عودته إلى وطنه الأم سوريا.
تغصّ ابتسام بدمعة تحاول إخفاءها وهي تتمنى لو كان والدها موجوداً في هذه اللحظة، وهو الذي عشق دمشق وعشق قاسيون، وكتب عنه قصائد لا تزال تحتفظ بها هي وأخوتها.
تقول ابتسام: “فُقد أبي منذ عام 2013، ولم نعرف عنه شيئاً أبداً منذ حينها، قيل إنه استشهد، وقيل إنه اعتقل، وآخرون أكدوا أنه خُطف، لكن لا خبر مؤكد، ولا معلومة موثوقة عنه، سوى أنه اختفى وترك مكانه فارغاً في قلوبنا وفي منزلنا وفي سفح قاسيون الذي عرفناه دون أن نزوره، من حكاياته ووصفه له”.
للمرة الأولى منذ أربعة عشر عاماً يستطيع كل سوري أن يردّد: “من قاسيون أطل يا وطني… وأرى دمشق تعانق السحب”.
الآن يفتح قاسيون ذراعيه أمام كل سوري، لا يفرق بين أعمارهم ولا طوائفهم ولا توجهاتهم السياسية، فهم كلهم سوريون… سوريون فقط.