مياس سلمان
وتمشي عائداً إلى بيتك كما تفعل كل يوم، لكنك فجأة تواجه نظراتِ الاستغراب والشفقة من قبلِ غرباء لا يعرفون من تكون. وفي بعضِ اللحظاتِ، ترى نظرات السخرية هنا وهناك، ابتسامات تخفي نفسها وأخرى لا تكترث. البعض يدقق في أجزاء جسدك، يطيل التحديق فيك كأنه يضعك على مشرحة. والبعض يشيح بوجهه بسرعة، تشبه سرعة طلقة قادرة على إعادتك للمشرحة. تصبح أقصى أحلامك أن تمشيَ بشارع مكتظٍ بالمارة دونَ أن يكترثَ أحدٌ بوجودك. أن تصبح عادياً، وطبيعياً من غير علامة التعريف، من غير وصمة.
لم أكنْ يوماً مِمّنْ يهرب فرغمَ إعاقتي تعلمتُ كيفَ أكونَ قوياً لأواجِهَ تلكَ النظراتِ دونَ أن أتأثر فتراكمِ المواقفَ المشابهة بالمجتمعِ والجامعة والوظيفة جعلتْ مني شخصاً لا يبالي ولا يكترثْ لدرجةِ أنَّ أي موقفٍ مشابهٍ لا يؤثرِ في نفسي أكثرَ من خمسِ دقائق.
أذكر جيداً كيف كنت أتعمد في الجامعة أن أحمل كتاباً جامعياً أثبت من خلاله من أكون كنت أحمله كمن يضع هوية على ظهره فنحن دائماً نحاول الظهور بشيء يمنحنا القوة أمام الأخرين ونخفي خلفه ضعفنا وانكسارنا وخيبتنا.
فمنْ يعاني من شللٍ دماغي ومشيته غير متزنة وحركة يديه أيضاً غير طبيعية يواجه مشكلة أن البعض يتعامل معه على أن إعاقته نوع من أنواع الإعاقة الذهنية فيصنف في خيال البعض على أنه أجدب أو عالبركة أو معتوه أو مسكين أو فقير فيعيش صراعاً أزلياً بين من يكون في الواقع وكيف يراه الناس …الخ
ومِنْ بينِ هذهِ المواقف القاسية التي تعرضت لها ولا يمكنْ أن تنسى حدثتْ قبلَ ستة أشهرٍ أو ربما أكثرَ بقليلٍ، فحصولي على شهادة جامعية جعلني من المحظوظين الذين يملكون وظيفة عامة ونوعاً مِنْ أنواعِ الاحترامِ لا بأسَ به. بدأتْ القصةُ عندما طلبَ مني صديقي أنْ أكونَ كفيلاً لهُ لقرضٍ سيسحبهُ مِنْ أحد المصارفِ العامةِ كوني موظفاً أمتلك راتباً يغطي الكفالة.
“إن كنت ترغب في الحصول على احترام الآخرين، فالأمر العظيم الذي عليك القيام به هو أن تحترم نفسك. بذلك فقط…باحترام ذاتك ستُجبر الآخرين على احترامك.”
ديستوفسكي
نزلتُ بصحبتهِ إلى المدينة التي تبعد عن قريتي حوالي أربعين كيلو متراً كنت محظوظاً وقتها أني حصلت على فرصة للنزول ضمن ميكرو باص ركاب في تمام الساعة الثامنة صباحاً.
كان الجو ربيعياً نوعاً ما يوماً من أيام شهر شباط غير الباردة أحتاج ما يقارب الساعة ضمن الميكرو للوصول إلى المدينة فموعد التوقيع على الكفالة التاسعة والنصف.
انتظرتُ ما يقاربُ عشر دقائقَ في بهوِ بناءِ المصرفِ حتى ندهَ باسمي للحضورِ لكوة شباك تحوي موظفتين اثنتين ما أنْ اقتربتُ إلى جوار الشباك حتى سمعتُ إحداهما تقولُ للأخرى: هذا تنقبل كفالته؟
فتجيبها الموظفة الأخرى “اسأليه إذا بيعرف اسم الكفيل… بصميه بيمشي الحال”!!
لا أدري كم شعرتُ بالغصةِ والانكسارِ. حينها لم تنفعْ وظيفتي وشهادتي الجامعية، ولم تكن رصيداً كافياً لتجنب هكذا موقف. لم أحاولْ النقاشَ أو حتى محاولةِ تغيير قناعتهم. أجبت عن اسمِ الكفيل وبَصمتُ في إصبع إبهاميَ الأيسر في المكانِ الذي أشارتْ لي به وكأني شخصٌ أميٌ ّلا يعرفُ القراءةَ والكتابةَ وخرجتُ من المصرف موجهاً لهم بعضَ كلماتِ الشكرِ وفي قلبي غصة لا يمكنُ تجاوزُها بسهولةٍ.
شعرتُ حينها بنوعٍ من الإحباط والانكسار فهكذا مواقف مهما كنت تملك من القوة والتصالح مع الذات لا يمكن أن تتجاوزها بسرعة تترك في داخلك ألماً خفياً يعود مع كل موقف مشابه ربما الحياة لم تخلق للضعفاء، ولكن أن تكون قوياً لا يعني أنك لا تتأثر. أن تتصالح مع إعاقتك لا يعني ألا تملك ندوباً نفسية وألماً دفيناً داخل أعماقك ففي النهاية أنت بشر تملك مشاعر لا يمكن التحكم بها، ولكنك تتناسى…. تحاول أن تكمل حياتك كأن شيئاً لم يكن.
قد لا تكون الحياة مُنصفةً دائماً، ولكن أن تكون قوياً لا يعني أنك لا تشعر بالألم. إن القدرة على قبول العراقيل لا تعني أنك لا تحمل آثارًا نفسية وألمًا غامرًا في أعماقك. فأنت بشرٌ تمتلك مشاعر لا تُمكن من تجاهلها، ولكنك تخفيها… تستمر في مسيرتك وكأن شيئًا لم يحدث. في خضم تفكيري، تساءلت عن كيفية دخول الموظفين في بلدي إلى الوظائف العامة بدون تلقي أي تدريب أو دورات تطويرية؟ لماذا لا نسعى جميعًا للتطور، حتى يكون لدى الموظفين فهمٌ عن كيفية التعامل بلباقة وحسن أخلاق مع جميع الأشخاص، بمن فيهم الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة؟ لا أرغب في التعميم، وأنا على يقين بأن العديد من الموظفين يحترمون ويتعاملون بلباقة تم تنميتها منذ الطفولة، وأحيانًا يتعاطفون مع الآخرين بشكل إنساني.
استمع للتسجيل الصوتي: