الإرادة

النزوح من قرى شرق حماة: أرضٌ منهكة وأملاكٌ معلقة (الجزء الثاني)

مياس سلمان

تناول الجزء الأول من هذا التقرير نزوحَ أهالي قرىً في شمال شرق حماة في شهر كانون الأول، فور سقوط النظام السابق، خوفاً من الانتقام وتصفية الحسابات. وبينما كان الآلاف من الضِّيع المجاورة يعودون لبيوتهم بعد تهجير قسري استمر ثماني سنوات، كان أهالي ضيع أخرى يغادرونها في مشهد يعكس الإرث الثقيل والدموي الذي تركه نظام الفساد والاستبداد على التنوع الثقافي والديني في المنطقة. إرثٌ أصبح له امتداداتٌ طائفية واقتصادية، تنذر بالانفجار مجدداً إذا لم يتم حلها عبر أجهزة القانون والقضاء العادل. هذا الجزء سيتناول قضية استثمار الأراضي في المنطقة، بالإضافة إلى استعراض جهود المجتمع المحلي للمصالحة وإيجاد حلول عادلة.

حقول الموت تمنع عودة الحياة

من سلة خبز إلى أرض ألغام:

لطالما عُرف سهل الغاب، بأنه “سلة خبز سوريا”. وبسبب مناخه المعتدل وتربته الخصبة، كان هذا السهل مركزًا حيويًا للزراعة وتربية المواشي. لكن سنوات الحرب الطويلة حولت هذه السلة الخضراء إلى أرض منهكة، تواجه تحدياتٍ كبيرةً تهدد مستقبل سكانها وعيشهم المشترك.

لقد كانت قرى ريف حماة الشمالي الشرقي في قلب المعارك بين قوات النظام السابق وفصائل المعارضة منذ عام 2011، وشهدت معاركَ كر وفر وتبادلًا للسيطرة. هذا القتال المستمر أدى إلى تدمير واسع النطاق للبنية التحتية، من آبار وشبكات مياه وكهرباء وصرف صحي، وتدميرٍ متعمد ووحشي لجميع مرافق الحياة، وفي عام 2019 سيطرت قوات النظام السابق على كامل ريف حماه وسهل الغاب، وقد شهدت قرى كاللطامنة وكفرزيتا وكفر نبودة ومورك وقلعة المضيق وطيبة الإمام حركة نزوح كبيرة جداً إلى تركيا وإدلب وأقصى ريف حلب الغربي الواقع تحت سيطرة قوات المعارضة وصلت في كثير من القرى إلى 100% من السكان.

اليوم، ومع سقوط النظام، يعود الآلاف إلى قراهم يومياً، بعد سنوات من النزوح القسري، لكنهم يواجهون خطرًا كبيرًا بسبب انتشار الألغام ومخلفات الحرب التي لا تزال مزروعة في البيوت المهجورة والطرقات. كما أن البنية التحتية تعرضت لتدمير ممنهج. يقول أبو محمود العائد من مخيم أورفه “لم يكن ليخطر ببالي أني أخرج من تحت الخيمة إلى تحت الخيمة. عدت إلى قريتي لأجد بيتي أكواماً من الحجارة. كل شيء يحتاج إلى البناء من جديد، حتى الماء والصرف الصحي”.

تهامة، الناشطة المدنية من حماة، تصف واقع الدمار: “المنطقة مدمرة بشكل شبه كامل، أكثر من 80% من المباني مدمرة بالكامل”. وتضيف أن “معظم القرى في ريف حماه تفتقد أدنى مقومات الحياة من ماء وكهرباء، وكمثال، قبل شهر عادت خمس عشرة عائلة من مخيم (أطمة ) في إدلب إلى بيوتهم في كفر زيتا، معظمهم سيعيش في الخيام ريثما يتم ترميم منازلهم، ولكن الجميع متمسك بالعودة إلى أرضه للعمل بها بعد أن حرموا من خيراتها لسنوات عديدة” وتوضح تهامة أن محافظة حماة تعمل لتشجيع الأهالي للعودة، ولكن هذا يحتاج لمساعدات وأموال طائلة لإعادة بناء المنازل وأغلب الناس لا تملك المال”.

"أملاك الغائبين": آلاف الدونمات من الارزاق المستباحة

في ظل هذه الظروف الصعبة، تبرز قضية “استثمار أملاك الغائبين” كعقبة أمام عودة النازحين واستعادة أراضيهم المصادرة. ففي الفترة الممتدة من عام 2020 حتى سقوط النظام، كانت الدولة السورية تطرح الأراضي الشاغرة للاستثمار بمناقصات معلنة تحت هذا المسمى، والمقصود بهم (المهجرين قسراً) حيث تحصل الدولة بموجبها على 60% من العائدات، بينما يحصل المستثمر على 40%، دون أي مردود لصاحب الأرض المهجّر والذي تستباح أرضه بشكل كامل. وقد شملت هذه المناقصاتُ أراضيَ في ريف حماة وإدلب، وكان الفستق الحلبي والزيتون وزراعة القمح والشعير أبرز المحاصيل التي يتم إجراء مناقصات لها، وكان يستفيد بالغالب من هذه المناقصات أشخاص متنفذون تربطهم علاقة وثيقة بالسلطات السياسية والأمنية في تلك المناطق.

(سمير) اسم مستعار لجندي في جيش النظام السابق أخبرنا كيف كان يقوم مع بقية العناصر بزراعة الأراضي بالقمح قرب نقطة تمركزهم بريف حلب منطقة (خان طومان) وأضاف كانت الأراضي المزروعة بالقمح والشعير تتجاوز ثلاثين دونماً كنا نقوم بحصادها لصالح ضابط (قائد الكتيبة) مقابل حصولنا على إجازات وأضاف “لا أنكر أن بعض العساكر كانوا يقطعون الأشجار المثمرة في الأراضي التي نزح منها أصحابها ويبيعونها لتجار الحطب للحصول على المال كون الراتب العسكري كان زهيداً جداً”.

يُعد القانون رقم 10 لعام 2018، المتعلق بأملاك الغائبين، الأداة الرئيسية التي استخدمتها الحكومة السورية للاستيلاء على ممتلكات النازحين. يسمح هذا القانون بإنشاء مناطق إعادة تطوير ويطلب من مالكي العقارات تسجيل ملكيتهم خلال فترة قصيرة، وإلا فإنهم يواجهون خطر المصادرة. يرى خبراء حقوقيون في هذا القانون محاولة متعمدة لمعاقبة المعارضين، حيث يصعب على ملايين النازحين العودة لتسجيل ممتلكاتهم بسبب المخاوف الأمنية أو فقدان الوثائق.

إلى جانب القانون رقم 10، أصدرت الحكومة السورية أكثر من 45 قانونًا ومرسومًا متعلقًا بالإسكان والأرض والممتلكات منذ عام 2011، بما في ذلك المرسوم رقم 66 (الذي يحدد مناطق المخالفات لإعادة الإعمار) والقانون رقم 3 (المتعلق بإزالة الأنقاض وهدم المباني المتضررة)، حسب المحامي جودت العبد الله.

المشكلة الراهنة: جهود مصالحة في مواجهة السمسرة

يكشف أبو أحمد من قرية معان عن تعقيد الأمر في قرى حماة الشمالية الشرقية: “المشكلة أن النظام السابق كان يقوم بمناقصات معلنة لاستثمار أراضي الغائبين المزروعة بالفستق الحلبي، وأغلب هذه الأراضي لقرى مهجرة من الطائفة السنية دون أن يحصل صاحب الأرض المهجر على أي مردود، فيما أغلب المستثمرين السابقين للقرى المهجّرة كانوا يستخدمون أبناء القرى العلوية كعمال لجني تلك المواسم”.

كان هذا أحد الأسباب التي دفعت سكان هذه القرى للهروب فور سقوط النظام والخشية من العودة لاحقاً، فقد سببت هذه التركيبة الاقتصادية التي أسسها النظام السابق حدوث مظالم اجتماعية كبيرة وخلقت دورات من الحقد والانتقام خاصة مع انتشار الفقر وشعور المهجرين العائدين إلى بيوتهم بعدم الإنصاف وبأنهم تعرضوا للسرقة والاستباحة.

بعض السماسرة استغلوا هذه المشاعر ليبدؤوا المطالبة باستثمار الأراضي بنفس طريقة النظام تماماً، وقاموا بالترويج إلى إمكانية اعتبار أراضي “النازحين الجدد” بمثابة “أملاك غائبين” وبالتالي يمكن استثمار أراضيهم بهذه الطريقة. هناك أيضاً، مقتنصو الفرص الذين يقومون بالتواصل مع سكان القرى والضغط عليهم لتوقيع عقود استثمار للأراضي بنسب ظالمة لهم، مستغلين الوضع الحالي. 

في الشهرين الماضيين، بدأت جهود محلية بين الأهالي لمحاولة التمهيد لعودة السكان من جميع الطوائف إلى قراهم وأرزاقهم، وحل الخلافات العالقة منذ سنوات. تضمنت هذه الجهود، تشكيل لجان أهلية ووضع اقتراحات بتعويضات مالية يتعهد بدفعها الأشخاص الذين حصلوا على عقود استثمار أيام النظام السابق إلى أصحاب الأراضي الأصلية كتعويض عن حرمانهم من حقوقهم سابقاً. لكن حتى الآن بقيت هذ الجهود في إطار الوساطات دون خطوات ملموسة على الأرض.

تحديات العودة والمصالحة:

إن قدرة النازحين على العودة إلى قراهم تعتمد على عدة عوامل، بما في ذلك الظروف الأمنية، وحماية حقوق الملكية، وتهيئة بيئة تصالحية يمكن فيها للنازحين من الطرفين العودة والتعايش بسلام مع بعضهم. يرى المحامي جودت العبد الله أن الخطوة الأولى ستكون بتشكيل لجان سلم أهلي مشتركة بين القرى والسلطات المحلية لمتابعة حل المشكلات العالقة وحماية حقوق الملكية لكافة الأطراف تمهيدًا لعودة الناس إلى أرزاقهم. هذه اللجان ستحمي جميع الأطراف من تدخل السماسرة والمتلاعبين بمصائر الناس طمعًا بالمال أو التسلط على حقوق الناس وأراضيهم.

إضافة للمسار الأهم وهو إطلاق مسار العدالة الانتقالية والمحاسبة لوقف ملف الانتقامات والحقد، والبدء بتحقيقات ومحاكمات حقيقية وقانونية لأفراد تورطوا سابقًا بالدم السوري أو سرقة أرزاق الناس، لتمييز الصالح من الطالح، وتمييز المستثمرين الذين تحالفوا مع السلطة لاستباحة أراضي المهجرين، وبين المزارعين العاديين الذين من حقهم العودة لأرضهم والحصول على مردود منها.

ويبقى الأمل معلقًا على قدرة المجتمع السوري على تجاوز جراح الماضي وبناء مستقبل يسوده العدل والتعايش.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *