الإرادة

المسنون المنسيون: عن الجرح المعضوض عليه والشيخوخة الوحيدة

مياس سلمان

قادتني المصادفة منذ أيام قليلة إلى لقاء رجل عجوز (العم أبو عدي) يبدو في السبعين من العمر كان يرتدي قميصاً نص كم ويده مقطوعة من تحت الكوع بقليل كان ينقل ما تبقى في له من أرض لأبنائه عدد الأسنان المنزوعة من فمه أكثر من أسنانه الموجودة رأيتها وهو يضحك ويدخن سيجارته الملفوفة بشكل يدوي قادني فضولي للتعرف عليه أكثر قلت له يا عمّ! لم لا تركب يداً اصطناعية؟ فأجاب : لم يعد في العمر ما يستحق ذلك لقد أصبح العمر وراءنا خسرنا يا بني ما هو أغلى من اليد يكفيني أني أمتلك مهارة لف السيجارة العربي بيد واحدة لم أعد أريد من الحياة أكثر من ذلك ها أنا أتنازل لأولادي الثلاثة عن الأرض المسجلة باسمي كي لا يختلفوا من بعدي وأنا لي رب لا ينساني.

قصة العم أبي عدي لا تختلف عن قصص مئات الآلاف من المسنين في سوريا إلا ببعض التفاصيل، فآلاف المسنين فقدوا منازلهم وأعمالهم وموارد رزقهم وممتلكاتهم في الحرب. بعضهم فقد أحد أبنائه أو عائلته بالكامل. وتعاني هذه الشريحة المنسية من الإهمال الصحي والاجتماعي في ظل تدهور الوضع الاقتصادي والأمني وانخفاض قيمة الليرة وهجرة الأبناء أو إصابتهم وتفكك الأسر وانعدام الأمان التقاعدي وعدم توفر العناية النفسية والرعاية الجسدية التي يحتاجونها في هذا العمر.

حسب المكتب المركزي للإحصاء، يشكل كبار السن حوالي 7.2 في المائة من إجمالي السكان في عام 2015، أي ما يعادل 1.7 مليون نسمة. وتقول تقارير لمنظمات إنسانية أن هناك 800 ألف مسن نازح داخلياً وخارجياً.

ألا يستحق هؤلاء مرحلة من العمر ينعمون بها بالراحة والرخاء بعد رحلة طويلة من التعب والشقاء في هذه الحياة؟ ألا يستحق الإنسان عندما يكبر في العمر مكاناً آمناً مستقراً ينعم فيه بالطعام والدواء والسكينة وأن يجد أبناءه حوله في أواخر عمره؟ هذه ليست الحال في سوريا بعد 12عاماً من الحرب التي حولت المسنين إلى طبقة مسحوقة تعيش ظروفاً معيشية يصعب على الشباب مواجهتها. فكثير منهم يعمل في مهن لا تناسب عمره أو يعيش وحيداً بعد هجرة الأبناء أو حتى مقتلهم. وهناك من اضطر أن ينسى آلام الشيخوخة وأن يعتني بأبنائه أو أحفاده المصابين أو ذوي الإعاقة، وهناك من يعض على جرحه وينام جائعاً أو موجوعاً لأنه لا يريد تحميل أبنائه فوق طاقتهم.

مسنون متعبون يعتنون برجال متعبين
أم محمد امرأة تجاوزت الخامسة والستين من العمر أرملة منذ سبع سنوات تحاول المكابرة على جرحها والظهور بمظهر المرأة القوية التي تحمل هم ابنها المصاب في الحرب بشظية في عموده الفقري جعلت منه شاباً مقعداً على كرسي متحرك ماهر ابنها المصاب قليل الكلام مكتئب رغم مرور ثلاث سنوات على إصابته لم يتقبل وضعه الجديد لا يخرج من منزله إلا نادراً ومنعزل يحاول أن يعتمد على نفسه ما أمكن كي لا يشعر بالشفقة من أمه التي تقول أن حلمها تزويجه لكي تفرح بأطفاله ولكن يرفض حتى مجرد الحديث في الموضوع ابنها الكبير محمد سافر الى العراق بحثاً عن عمل يؤمن له حياة كريمة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة وبناتها الثلاث متزوجات وكل واحدة مشغولة بزوجها وأطفالها تبرر غيابهم عنها مختصرة معاناتها بجملة بس يكونوا بخير أنا بخير الله يعطيني القوة اعتني بماهر وما بدي شيء تاني من هذه الدنيا.

حال أم محمد حال الكثيرات البعض من كبار السن يعانون من ظروف غاية في القسوة، فهم يرعون أولادهم الشباب التي أصابتهم الحرب إصابات خطيرة ويحتاجون لمن يهتم بهم فكم من أم ترعى شابا على كرسي متحرك أو فاقد البصر وتقول “الحمد الله مهم لسا عايش؟”.

العجز عن تأمين الدواء والعلاج
العم أبو فادي رجل ضخم يبلغ من العمر ثمانبن عاماً تعرض لنوبة قلبية مفاجئة واحتاج لعملية قلب مفتوح لم يستطع ما جمعه أولاده تغطية تكاليف العملية مما اضطرهم لطلب مساعدة من جمعيات وفاعلي الخير وسحب قروض لكي يتم إجراء العملية، ما يخفف من المصاب أن العملية نجحت واستعاد أبو فادي قوته ولكن أثار العملية ستبقى في صدر أبي فادي وديون في رصيد أبنائه الذين سحبوا قروضاً وعليهم سدداها على مدى خمس سنوات.

حسب الأمم المتحدة يحتاج 300 ألف مسن سوري إلى مأوى في عموم أرجاء سوريا و 700 ألف يحتاجون إلى خدمات صحية. فرغم أن الطبابة لا تزال مجانية في المشافي العامة، ولكن الأغلبية غير قادرة على دفع ثمن الدواء فأغلب كبار السن يعانون من أمراض مزمنة مثل السكري وارتفاع الضغط والأعصاب. الكثير منهم تراه دون أسنان بسبب ارتفاع تكاليف إصلاحها فما بالك بالعمليات الخطيرة مثل عملية القلب المفتوح أو الدسك أو الأورام التي تحتاج لأموال طائلة أكبر من دخل الغالبية الساحقة. فأكثر من تسعين بالمئة من المجتمع بمن فيهم كبار السن تحت خط الفقر حسب تقارير المنظمات الدولية كما أن نسبة لا بأس منها من كبار السن يتحولون نتيجة عجز وظيفي الى أشخاص ذوي إعاقة فمنهم من يفقد سمعه أو بصره أو قدرته على المشي أو تلبية احتياجاته الشخصية بنفسه كتناول طعامه وشرابه أو الذهاب للحمام.

تبلغ متوسط تكاليف إقامة المسنين في دور الرعاية حوالي مليون ليرة في الشهر للغرف العادية، وبعض دور الرعاية تصل إلى 24 مليون ليرة سنوياً.

العمل بعد التقاعد
أستوقفني منذ أيام قليلة العم أبو سائر ذلك الرجل الذي تجاوز الثمانين من عمره، لا يوجد شعرة سوداء في رأسه كان يعمل في حقله المزروع بالخضار الصيفية بكل جد وهمة الشباب يتحامل على ضعفه فهو يعلم بأن مجرد توقفه عن العمل ربما يجعله يجوع هو وامرأته السبعينية التي تعاني من الضغط والسكري وهي مجبرة على العمل ومساعدته فلا يملكون سوى بيت يأويهم فلا يوجد لهم رصيد بنكي ولا ذهب أو أي دخل ثابت يتعكزون عليه في كبرتهم وربما هم من المحظوظين لأنهم لا يحتاجون أحداً ويعملون في قطعة أرضهم الصغيرة، ولا يضطرون للعمل بظروف صعبة وأعمال مجهدة لا تناسب سنهم، كذلك الرجل السبعيني الذي رأيته يعمل في العتالة في السوق وقد تقوس ظهره حتى كاد رأسه يلامس ركبتيه.

المحزن في الأمر، أن كثيراً من هؤلاء المسنين الباحثين عن عمل هم متقاعدون سبق أن عملوا لدى القطاع العام كموظفين حكوميين في دوائر الدولة وتم اقتطاع جزء من رواتبهم لصندوق التقاعد الذي كان من المفترض أن يؤمن لهم حياة كريمة. هذا الراتب يبلغ في حده الوسطي مئة ألف ليرة سورية أي ما يعادل حوالي ثلاثة عشر دولاراً لا تكفي ثمن دواء وخبز لشخص واحد ما بالك بمن لديه مصروف أسرة.

الوحدة في آخر الأيام
الحرب والدمار والزلزال الأخير فعلوا فعلتهم وتركوا جروحاً غائرة على جميع السوريين، لكن ربما يكون المسنون من أكثر الفئات المنسية والمهمشة، فالكثير منهم فقدوا بيوتهم وأصبحوا مشردين في مراكز الإيواء واضطر آخرون للنزوح وترك ضيعهم التي ربما قضوا عشرات السنين لا يعرفون غيرها وطناً، وهناك الكثير من كبار السن الذين يعيشون وحيدين بعد أن مات أولادهم في الحرب أو هاجر أبناؤهم خارج البلد، بعضهم لا يريد العودة للوطن مجددًا، والبعض لا يستطيع العودة.

وفي انتظار عودة “الغائب” يعيش الآلاف وحيدين في بيوتهم، فقصص مثل إيجاد أحد المسنين وقد فارق الحياة في سريره دون أن يرافقه أحد في لحظاته الأخيرة، لم تعد غريبة على مسامع السوريين، فالمحظوظون من يجدون أحداً يعتني بهم. أما دور المسنين فأصبحت للأغنياء فقط وغالباً لمن سافر أبناؤه خارج البلاد ويستطيع إرسال تكاليف الدُّور بالقطع ألأجنبي. هذا لا يقلل من الألم والوحدة التي يشعر بها هؤلاء، فالإنسان يفني حياته من أجل تربية أولاده ليكونوا له سنداً في شيخوخته وليس من المنصف أن يعيش آخر سنواته وحيداً حتى في قصر.

ويبلغ عدد دور المسنين في سوريا 20 دار رعاية خاصة واثنتين حكوميتين هما “دار الكرامة” بدمشق و”دار مبرة الأوقاف” في حلب وتدار معظمها عبر جمعيات أهلية. وتبلغ متوسط تكاليف إقامة المسنين في دور الرعاية حوالي مليون ليرة في الشهر للغرف العادية، وبعض دور الرعاية تصل إلى 24 مليون ليرة سنوياً.

قبل الحرب في سورية كانت كثير من دور المسنين تعمل بأقل من طاقتها فقد كان من الغريب، بل المستهجن اجتماعياً أن يضع أحد ذويه في دور رعاية. لكن في السنوات الأخيرة شهدت البلاد قصصاً حزينة عن تخلي الأبناء عن آبائهم وأمهاتهم، حتى أصبحت الدور الموجودة لا تتسع لهم، وهناك قوائم انتظار طويلة. حتى أن بعض دور الرعاية تضع شروطاً كأن لا يزيد عمره على 70 عاماً أو ألا يكون مقعداً أو مصاباً بالزهايمر حتى لا يكون هناك تكاليف إضافية على الدار.

تقول الدكتور ربى مزيد التي أجرت بحثاً عن واقع دور الرعاية بعد الحرب أن فئة المسنين تعتبر فئة هشة عاطفياً وبالتأكيد لم تتوقع أن تقضي ما تبقى من العمر بهذا الاغتراب النفسي والاجتماعي وفقدان الأحبة، وتقليدياً كانت الأسرة هي الراعي الأساسي للمسنين في المجتمع السوري، لكن النتائج الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية للحرب كسرت هذا الحامل الاجتماعي في وقت لا توجد دور كافية للرعاية علماً أن القانون رقم 20 عام 1984 ينص على احداث مراكز لرعاية العجزة والمسنين لكنه لم يجري تطبيقه.

كان الإنسان السوري هو أكبر من دفع ثمن الحرب الطاحنة وكان الأثر كبيراً على المسن فيما وصل للعمر الذي ينتظر أن يجني فيه تعبه ويرتاح ويرى أولاده وأحفاده حوله، لكنه يعيش أصعب سنواته، قد يعاني المرض، الفقر، آلام الشيخوخة، القلق على الأبناء، الحلم برؤية الأحفاد الذين ولدوا ببلاد بعيدة، لكن لعل الوجع الأكبر يبقى… الوحدة.