الإرادة

القوَّاد وخبز النظام

عبد الكريم عمرين

الجمعة 30 آب 2013 الساعة السابعة صباحاً. حمص، الوعر.

الشمس تنشر أجنحتها في الأفق، ورائحة بساتين الوعر وما تبقى من ماء نهر العاصي تضج في شوارعها المقفرة، شوارع يتيمة ومتعبة لا أحد فيها إلا بعض المارة الذين يجدُّون السير نحو دكان معتمد بيع الخبز، متلفتين خفافاً خشية قناص يتربص بهم.

نسمات الوعر الباردة الصباحية الآتية من البحر مارة بالجبال الندية مروراً بوادي النضارة تملأ الصدور المتعبة، وفي البعيد تسمع رشقات مدفعية وهاون.

أمام دكان معتمد لبيع الخبز، وقف الناس بالدور ملتصقين بالحائط، وبعضهم اتكأ على سيارة مفخخة انفجرت منذ أيام في آخر شارع الفردوس قريباً من الغابة، وأخذ يتأمل ما فعلته النار بالحديد. وصمت جليل في حضرة ربطة الخبز المشتهاة.

وأمام دكان من صفيح وقفت سيارة سكودا مغلقة…

– 68، 69، 70.

صباح الخير يارغيف الخبز.... الفنان التشكيلي موفق مخول

كان سائق البيك آب السكودا يرشق ربطات الخبز ويعدّها لصاحب الدكان رافعاً صوته الأجش، من خلال شفتين سميكتين تقبضان على سيجارة حمراء طويلة كادت أن تنطفئ. وكانت عيون ورؤوس الواقفين بالدور تتحرك باتجاه الخبز المرشوق بين السائق وبائع الخبز.

– لك يا عمي شو جاي ع بالك تصير شهيد من الصبح؟! قرّب هيك ع الحيط.

صاح أحدهم بوجه جاره الذي يقف أمامه في طابور الخبز، ودفعه دفعاً خفيفاً باتجاه الحائط. لم يكن حائطاً من طين أو اسمنت كما هو متعارف عليه، بل جدار من صفيح لدكاكين متجاورة لم تفتح أبوابها بعد.

– شو مانك شايف القنَّاص يا عمي؟!

صاح رجل وقور يلبس بيجامة رياضية عتيقة.

– لا والله ماني شايفو.

رد العجوز الذي اشتعل رأسه شيباً.

– هاهاهاه.. إذا مانك شايفو، هو شايفك.

علَّق شاب أسمر بعينين صغيرتين ومنكبين عريضين.

–  89، 90، 91 .

توقف السائق عن العد وبعد أن حاول أن يطرد البلغم من قصباته ورئتيه وجه حديثه للحاضرين.

–  …. أخت الدخان، 40 سنة وأنا أدخن. ورمى ما تبقى من اللفافة بعد أن مجَّها مرات ومرات دون فائدة.

ضحك الحاضرون، وعلَّقوا على الحدث باعتبار أن السائق الآن هو رجل مهم بالنسبة لهم.

– إي بطِّل الدخان.

نصحه رجل أصلع.

– ليش بيقدر؟! هاد الدخان سوسة.

علَّق رجل سمين.

–  98، 99، 100 .

وانتصب السائق وأخذ يمسح عرق وجهه بكم قميصه.

– شو؟!! بس 100 ربطة؟! كل نهار بتعطيني 300 ربطة، ليش نقّصتهم خير؟!.         

قال صاحب الدكان مستغرباً توقف السائق عن عدِّ ربطات خبز إضافية.

–  هيك خيو.

ارتفع الصوت الأجش، وأردف، وهو يضع كفيه على خصره، ثم يحشر قميصه داخل بنطلونه.

– مافي خبز. شو مانك هون؟ الناس كلها عم تخزِّن خبز، خايفين من الضربة العسكرية الأمريكية. والتفت إلى جمهور الدور الواجم

– لا تخافوا أخواتي لا تخافوا، ما بيصير شي إلا اللي كاتبو الله.

ونزل بسرعة وقاد سيارته بعيداً وسط ذهول وانكسار الجميع، فهذا يعني أنه لا يحق للواقف في الدور إلا أن يتحصَّل على ربطة خبز واحدة، والأكثر قلقاً كان أولئك الذين يقفون في آخر الدور، فمن الممكن جداً أن يعودوا أدراجهم خائبين وينفد الخبز.

– يلا يا شباب بالدور، برا الدور ما بعطي فتفوتة خبز، عم تفهموا عليي ولا كرر؟.

–  فهمنا.

– خلِّصنا.

– لاحول ولا قوة إلا بالله.

تناثرت الهمهمات والتعليقات.

في الطرف الآخر من الدور وقفت ثلاث نساء من الغجر الذين يسكنون في خيام على أطراف حي الوعر، وعلى بعد أمتار منهنَّ وقفت حميرهن بانتظار الغجريات الثلاث.

– بدي خمس ربطات.

قالت أجملهن وأكثرهن شباباً بعد أن دفعنها إلى البائع لتكون أول من تطلب الخبز من البائع، ورغم ابتسامتها الجميلة، وبعض الدلع الذي وهبته لبائع الخبز من ابتسام وغنج ورقة صوت.

صرخ هذا الأخير بوجهها غاضباً

– خمسة بعيونك وعيون الشيطان إن شاء الله، يفضح حريشك شو أنت عمياء؟ّ!

وأشار إلى الدور الطويل وأردف يسألها

– لك وين بدي روح بها الأمة؟! اسمعوا يا عالم يا هوه ربطة واحدة لكل مواطن.

– ليش بقي شي مواطن؟! قال مواطن قال هاهاهاه..

علّق الشاب الأسمر القصير، صاحب العينين الصغيرتين والمنكبين العريضين، ضاحكاً وباحثاً عن تأييد لفكرته بين الحاضرين.

بدأ البائع بتوزيع الخبز كما قرر وبدأ الدور يتناقص بطيئاً، وأحياناً يتوقف بسبب أن أحدهم يجادل كي يحصل على ربطتين أو أكثر.

– هوهوه.. خلصونا.

صاح الرجل الوقور.

– ولك أخي شبكون!، الأزمة كلها يومين أو ثلاثة، بس خلصت الضربة الأمريكية منرجع أحسن من الأول، ومناخد خبز على كيُّوف كيُّوفنا.

علّق رجل نحيل بعينين سوداوين ناريتين وشفتين غامقتين.

– يعني الضربة، فركة الأذن، راح توقِّف بعد يومين؟.

سأل رجل أبيض يشبه الثعلب بلا مكر.

– اتحملنا كل ها القصف والقنص والكيماوي سنتين، ماعاد نتحمّل يومين ضرب بصواريخ الكروز؟ وعلى مين الضرب؟ ما علينا، ع النظام.

شرح لهم الرجل النحيل.

– بس الخبز شغل النظام، الأفران أفران النظام.

ردّ الرجل الثعلب.

غاضباً ومعاتباً أخذ الرجل النحيل يذكّر الرجل الثعلب والآخرين.

– لك شبك يا زلمة نسيت؟ قطعوا عنَّا الكهرباء خمسطعش يوم متواصلة. ما انقطع الهاتف ببيوتنا من عشر شهور ولهلّق مقطوع؟. بدّي اسألك: مانّا مقطوعين من البنزين والمازوت؟ ما قطعوا عنا الخضرة والفواكه والخبز عشرة أيام قبلها؟ ما عاد نعرف نصبر يومين تلاتة خيُّو؟!

– هاي الحرية اللي بدكن اياها.

سخر الرجل الأبيض الثعلب غير الماكر.

انفجر الرجل النحيل مرة واحدة واندفع بسرعة البرق نحو الرجل الثعلب.

– والله لألعن أختك على أخت النظام، يا أخو العاهرة شو أنت مخبر؟

–  والله ماني مخبر. بكون قوّاد على مرتي إذا كنت مخبر.

ردَّ الرجل الثعلب وهو يمسح الدم المتدفق من فمه إثر لكمة الرجل النحيل المباغتة.

تدخل الأوادم لفض الاشتباك، وتخليص الرجل الذئب من يدي الرجل النحيل الذي يحكم الخناق عليه، بينما البائع يتأمل المشهد ماداً رأسه من دكانه، وإذ شعر البائع أن أهميته انتقصت وأنه لم يعد في بؤرة الحدث، صرخ بحنق:

– لك شو ما بدكن خبز؟! تعالوا كل واحد ياخد ربطته ويفرق مؤخرتي.

ردّ الرجل النحيل:

– أنت كول هوا، بدنا نشوف ها القواد اللي مفكر أنو راح نموت من الجوع بدون خبز النظام.

     حمص- الوعر. صورة طبق الأصل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *