منصة إرادة- مادلين جليس
لم تكن فرحة مرضى السرطان بسقوط النظام السابق في كانون الأول 2024 أقل من فرحة غيرهم، فقد عبث بأرواحهم وأهمل علاجهم، لكن هذه الفرحة لم تكتمل لآلاف المرضى الذين وجدوا حياتهم على المحك. فمع توقف العلاج الكيميائي لثلاثة أشهر وانقطاع الأدوية من الأسواق، تحولت معركة هؤلاء المرضى إلى صراع وجودي يومي، يكشف عن تحديات غير مسبوقة.
90 وفاة لكل 100 ألف شخص، رقم يكشف حجم المأساة الصامتة التي يعانيها بلد انهار قطاعه الصحي، وعجز عن علاج كثير من الحالات، ووقف مكتوف الأيدي أمام ازدياد رهيب في معدل الإصابة والوفيات جراء السرطان.
لكن المأساة التي ازدادت وبرزت في الأشهر الفائتة تطلبت تدخلاً سريعاً من وزارة الصحة حيث يدفع تشخيص السرطان العائلات إلى الفقر المدقع والديون، مما يديم حلقة من المعاناة تتجاوز المرض بكثير.

أصوات من خطوط المعاناة الأمامية
وجه شاحب، وابتسامة ذابلة، ونصف حياة تنسحب من العروق، هكذا بدت ابتسام إبراهيم، أم لثلاثة أطفال، وهي تنتظر دورها لجرعة الكيمائي المخصصة لها، بعد أن اضطرت لتأمين ثمنها على نفقتها الخاصة لعدم توفرها في المستشفيات الحكومية.
تشير لي لأنظر إلى تقرحات عديدة ظهرت في فمها نتيجة العلاج الكيمائي، “حتى هذه التقرّحات الخبيثة كدت أفقدها في الفترات الماضية بسبب عدم توفر العلاج الكيميائي، وعدم قدرتي على تأمين تكاليفه على نفقتي الخاصة”، وتضيف: لم يكن الانتظار ممكنًا، فـ”لا أحد يعلم متى تتوفر الأدوية ومتى تعود المستشفى لتقديم الجرعات لنا بطريقة منتظمة”. اضطرت ابتسام لجمع ثمن الجرعة من مساعدات الأقارب والأصدقاء، وهي تعاني من سرطان الثدي الذي بدأ بالانتشار، وتتلقى العلاج الفموي بمعدل جرعة كل شهر. تضيف “لموعد الجرعة الثانية يخلق الله ما يشاء”.
حال ابتسام ليس استثناءً، ففي عموم أرجاء سوريا، يواجه مرضى السرطان واقعًا مريرًا لا قدرة لهم على تحمل وطأته، خاصة في ظل انقطاع الأدوية المطلوبة وارتفاع تكاليف العلاج في المستشفيات الخاصة، وقلة المراكز الحكومية المتخصصة. وحتى مراكز الرعاية على قلتها تفتقر لأدنى مقومات الرعاية الصحية التي يحتاجها المرضى.
الموت أو الفقر.. انتهت الخيارات
يستيقظ مرضى السرطان يومياً على شبح الموت الذي يلاحقهم، والذي كرّس نفسه في الشهور الستة الأخيرة لسرقة الأمل من قلوبهم، بسبب عجزهم عن توفير الأدوية المطلوبة، وعجزهم أيضاً عن مواكبة الأسعار الجنونية التي تصل لحوالي ألفي دولار شهرياً.
حسب المرضى الذين التقيناهم، فالأشهر الأولى بعد السقوط كانت الأصعب، خاصة أن الأدوية اختفت من المشافي العامة والخاصة على حد سواء، وحتى الأدوية التي طالما اشتكى المرضى من قلة فاعليتها وارتفاع ثمنها، أصبحت غير موجودة، الأمر الذي أنذر بكارثة إنسانية خاصة مع وجود حوالي 20 ألف مريض بالسرطان في سوريا.
“نصيحة أوجهها لكل مرضى السرطان هي بيع كل ممتلكاتهم وتوفير كل ما يمكنهم من الأموال سواء بالليرة السورية أو العملة الصعبة ليستطيعوا متابعة علاجهم، في حال لم يكن الموت أسرع لأجسادهم من هذا العلاج” بهذه الكلمات لخص علي تيسير من محافظة حمص المشقة التي يتكبّدها مرضى السرطان وذووهم في سوريا.
يروي علي لـ “إرادة” قصته مع السرطان التي بدأت قبل عدة سنوات، وتدهور أوضاعه المادية نتيجة لذلك، على الرغم من المساعدات الكبيرة التي تلقاها من أسرته ومن باقي أفراد عائلته الذين مدوا له يد العون كثيراً، “لكن لا قدرة لأحد على مواجهة السرطان ومتطلباته”.
يتابع” أثناء تلقي الجرعات الأولى رافقتني زوجتي إلى دمشق، لكنني اضطررت بعد ذلك لمنعها من مرافقتي خاصة أنه لا يوجد مكان للإقامة خلال انتظار موعد الجرعة، وتململ أصحابنا من زياراتنا لهم في هذه الأثناء.
“وعندما قررنا استئجار غرفة في فندق، تفاجأنا أن أجرة ليلة واحدة في أرخص الفنادق تعادل سعر الجرعة التي نركض خلفها من محافظة لأخرى، لذلك اضطررت للطلب من والدي العجوز مرافقتي والنوم في الحدائق طوال فترة الانتظار”.
خلال الأشهر الماضية، كان المشهد أقسى وأصعب كما يروي علي، إذ أصبح مريض السرطان وعائلته في بحث مكثّف عن الأدوية وعن طريقة تأمينها بشتى السبل، فإما تأمينها أو تصبح الحياة على المحك.
أرقام متضاربة.. ومأساة تتفاقم
تُظهر الإحصائيات تزايدًا مقلقًا في حالات السرطان في سوريا. في عام 2022، سجلت سوريا حوالي 22 ألف حالة سرطان جديدة لكل من الجنسين، بمعدل بلغ 140 حالة لكل 100,000 شخص. وهي تشكل زيادة بنسبة 40% مقارنة بعام 2015، وارتفعت الوفيات المرتبطة بالسرطان بنسبة 31.7% مقارنة بعام 2015، بمعدل وفيات إجمالي بلغ حوالي 90 وفاة لكل 100,000 شخص في عام 2022.
ووفقًا لبيانات GLOBOCAN 2022، فإن الأنواع الخمسة الأكثر شيوعًا للسرطان في سوريا هي: سرطان الثدي، وسرطان الرئة، وسرطان القولون والمستقيم، وسرطان الدم، وسرطان البروستاتا. كما لوحظت زيادة واضحة في أعداد مرضى سرطان الدم والأورام الصلبة الأخرى.
هذه الأرقام التي جمعناها من منظمات دولية يقابلها فوضى في الأرقام الحكومية المعلنة عن مرضى السرطان خلال السنوات السابقة، فكل جهة تعلن رقماً مختلفاً عن الجهة الأخرى، للدرجة التي لا يمكن فيها تحديد رقم دقيق سواء لعدد الإصابات والوفيات أو حتى نسب الشفاء.
التذبذب في الأرقام والاختلاف بالتصريحات يكشف حجم الإهمال الكبير الذي تعرض ويتعرض له مرضى السرطان في سوريا والذي جعلهم مواطنون بالاسم، دون أن يدخلوا في الحسابات الرسمية لحكومتهم التي لم تكلّف نفسها عناء إحصائهم وتأمين علاجهم، وتوفير بيئة رعاية صحية مناسبة لهم.

وهم "العلاج المجاني"
على الرغم من وجود 13 مركزاً لعلاج السرطان في سوريا، إلا أن الأدوية تكاد تكون شبه غائبة إلا في مستشفى البيروني في دمشق، الذي يصنف أنه الأول في سوريا في علاج الأورام والسرطان، لكن كثرة أعداد المرضى الذين يتدفقون من كل المحافظات إلى البيروني كأنه طوق النجاة الوحيد، يجعل المهمة أصعب على المستشفى الذي يكتظ بالمرضى وأهاليهم، حيث إن مشاهد نوم المرافقين في ممرات المشفى أو تلقي الجرعة على ضوء الموبايل أصبحت مشاهد عادية في السنوات الأخيرة، لكن الأصعب هو فقدان الأدوية والجرعات نتيجة كثرة الطلب الذي تضاعف بعد سقوط النظام السابق نتيجة قدوم مرضى المنطقة الشرقية والشمالية للعلاج في العاصمة أيضاً، وبات المشفى قاب قوسين أو أدنى من إعلان نفاد أدويته تماماً حسب الأطباء الذين قابلناهم؟
وعلى مبدأ “الرمد أحسن من العمى” يضطر مرضى السرطان لشراء الأدوية المتوفرة في الأسواق على حسابهم، وتحمل تكاليفها المرتفعة التي تتراوح بين 500 و1500 دولار أي بين 5 لـ 15 مليون ليرة سورية، الرقم الذي يعتبر ضخماً جداً مقارنة بالوضع المعيشي للمواطن السوري.
وبحسب تصريح خاص للدكتور جميل الدبل رئيس اللجنة الوطنية الاستشارية للدم والأورام في وزارة الصحة فإن أغلب الأدوية الخاصة بمرضى السرطان والأورام باتت غير متوفرة في المستشفيات الحكومية، والمتوفر منها كمياته قليلة جداً وذو نوعية سيئة، فهو إما هندي أو إيراني، وبسبب عدم توفرها في المستشفيات الحكومية يلجأ المريض لشرائها من الأسواق، ويختار الهندي لرخص ثمنه مقارنة بالأوروبي على الرغم من فعاليته القليلة، لكنه يقع في أحيان كثيرة ضحية الغش، فبسبب عدم مراقبة النظام السابق للأسواق والصيدليات انتشرت كميات كبيرة من الأدوية والجرعات المزورة والمغشوشة والتي تعمل وزارة الصحة حالياً على ضبطها ومراقبتها.
ويشير الدبل أن النظام السابق “وفي سبيل التنفيع” أجرى عقوداً لشركات إيرانية تنافس بأسعارها شركات البراندات العالمية الأوروبية والأمريكية الممتازة مثل شركات “جونسون آند جونسون، فايزر، روش ليلي”، وقد تزيد عنها بالسعر، أما بالجودة فهي سيئة إلى حد كبير، مع وجود عقود وهمية.
ويضيف: عندما تسلمنا المستودعات، تفاجأنا بكميات أدوية قليلة جداً لا تطابق العقود الموقعة ونوعيتها سيئة جداً، وبالمقابل وجدت أنواع قليلة لشركات أوروبية مثل شركة روش بعقود آجلة غير مدفوعة من قبل النظام، وهذه الشركات تطالب الحكومة الحالية بالمبالغ المترتبة على النظام السابق والتي لم يدفعها منذ سنوات.
تتركز خدمات رعاية مرضى السرطان بشكل كبير في دمشق، مما يزيد من الفوارق القائمة ويترك مناطق واسعة محرومة من الخدمات. وغالبًا ما يضطر المرضى إلى السفر لمسافات طويلة ومكلفة وخطيرة للوصول إلى المراكز القليلة المتاحة. ويؤدي نقص برامج الفحص والكشف المبكر واستمرارية الرعاية إلى التشخيص المتأخر.
وبحسب وزارة الصحة فإن الأدوية التي كانت موجودة في المستشفيات الحكومية لم تكن تغطي سوى 20% من الحاجة الفعلية، وبسبب ذلك أطلقت الوزارة نداءً إنسانياً في آذار الماضي لتوفير أدوية السرطان، مشيرة لوجود أكثر من 80 صنفاً من أدوية السرطان مفقودة، الأمر الذي يعرض حياة الآلاف من المرضى للوفاة، لكن، حسب مصادر في الوزارة، لم تستجب أيُّ جهات حكومية أو منظمات لهذا النداء مع وجود وعود من عدة دول بالدعم الطبي والدوائي لم تتحقق حتى الآن.
وتفادياً لأي نقص قد يسبب خطراً أكبر تعمد وزارة الصحة كما يؤكد الدبل إلى التواصل مع الشركات ذات العقود القديمة، بهدف استيراد بعض الأدوية المطلوب توفرها لكن مع شروط ترخيص جديدة. كما تعتزم الوزارة أيضاً إزالة الشركات الهندية ضعيفة الجودة من السوق السورية وإلغاء ترخيصها، إلا في حال حققت الشروط المعيارية المطلوبة مثل شروط الحفظ والتخزين ونوعية الأدوية وشهادة المنشأ، وبعض الشروط الخاصة بالأدوية بشكل عام وبالأدوية المناعية بشكل خاص، بحيث تكون مطابقة للمواصفات العالمية وبجودة عالية.
كما تواجه سوريا نقصًا في معدات التصوير التشخيصي والعلاج الإشعاعي والطب النووي، وهو أمر بالغ الأهمية للتشخيص المبكر ومراقبة فعالية العلاج. كما أن أنظمة اختبار الكيمياء النسيجية المناعية وقياس التدفق الخلوي الضرورية للتشخيص المرضي ومراقبة سرطانات الدم، غائبة أيضًا. خدمات العلاج الإشعاعي غير كافية ومحدودة جغرافيًا، حيث تتوفر فقط في دمشق واللاذقية.
نداء أخير للمنسيين
في الوقت الذي يخاف فيه الناس من الموت، هناك من ينتظره بفارغ الصبر، وهناك من فتح يديه ليستقبله بكل رحابة صدر، بعد أن ضاقت عليه المستشفيات وعجزت عن حجز سرير له في غرفها المكتظة بالمرضى.
إن أزمة السرطان في سوريا ليست مجرد مشكلة طبية؛ إنها انعكاس عميق لمرض خبيث شامل، حيث تتشابك آثار الحرب والتدهور البيئي والضغوط الاقتصادية لتخلق كارثة إنسانية صامتة. إن معاناة مرضى السرطان السوريين تذكير صارخ بالترابط بين الصراع والصحة والكرامة الإنسانية.
في بلد مزقته الحرب، يواجه آلاف المرضى معركة أخرى في الظل. هذا المخطط يكشف حجم الكارثة الإنسانية وأبعادها المروعة.
زيادة مذهلة في معدلات الإصابة
ارتفع معدل الإصابة بالسرطان بين عامي 2015 و 2022، مما يكشف عن أزمة صحية متفاقمة تتطلب اهتمامًا فوريًا.
تصاعد الإصابات والوفيات (2015-2022)
تظهر البيانات اتجاهاً مقلقاً في زيادة كل من حالات الإصابة الجديدة والوفيات الناجمة عن السرطان.
أنواع السرطان الأكثر شيوعاً في سوريا
يتركز العبء الأكبر في أنواع محددة، مما يتطلب استراتيجيات وقاية وعلاج موجهة.
نظام صحي على حافة الانهيار
بنية تحتية مدمرة
57% فقط
من المستشفيات تعمل بكامل طاقتها، مما يترك الملايين دون وصول للرعاية الصحية الكافية.
نقص حاد في الأدوية
+80
صنفاً من أدوية السرطان مفقودة، مما يعرض حياة الآلاف للخطر المباشر.
تكاليف علاج باهظة
تصل إلى 1,000$
شهرياً، في بلد يعيش فيه 90% من السكان تحت خط الفقر.
رحلة المريض: مسار مليء بالعقبات
هذه ليست مجرد رحلة علاج، بل هي سلسلة من التحديات المستحيلة التي يواجهها المريض السوري وعائلته.
التشخيص المتأخر
بسبب نقص الوعي ومعدات الفحص.
البحث عن مركز علاج
معظم المراكز في دمشق فقط.
البحث عن الدواء
نقص حاد وأدوية مغشوشة أو رديئة الجودة.
تدبير التكاليف
بيع الممتلكات واللجوء للمساعدات.