منصة إرادة- شيماء شريف
تتسرب وجوه الشباب الأغرار من الفيديوهات المنتشرة في الأسبوع الماضي للمقاتلين على جبهات الدم السوري، شباب لم تخط بعد شواربهم، أجسادهم رقيقة لا تشبه عضلات الجنود، عيونهم قلقة وتكاد لا تتوقف عن الدوران في محاجرهم، ينوسون بين نشوات الانتصار ورجفات الذعر.
نداءات مثل “النفير العام”، و”يا غيرة الدين”، و”حيّ على الجهاد”، “فزعة العشاير”، “الدفاع عن العرض”، وإن اختلفت في تعبيراتها ومرجعياتها حسب الطوائف والقوميات، إلا أنها تتفق في مضمونها الدموي: “احمل سلاحك واقتل من ليس معك”. تلعب هذه النداءات المحملة بالعواطف على وتر الولاءات الطائفية والقبلية وتستهدف بشكل مباشر فئة المراهقين واليافعين، مستغلة اندفاعهم الطبيعي وسهولة التلاعب بمشاعرهم وأفكارهم.
تمثل “الدعوة للقتال” لحظة صفرية وباب مفتوح لتجنيد مئات، وربما آلاف، من الأطفال واليافعين والشباب الغض في محرقة حرب أهلية، تحت ذريعة حماية العشيرة أو الطائفة أو القومية. سياسة ممنهجة لزج أكبر كمية من العنصر البشري في النزاع. سياسة مارستها سابقاً جميع أطراف النزاع السوري، ليعيدوا تشكيل حياة جيل كامل، محولين الطفولة إلى ساحات قتال والمستقبل إلى حالة من عدم اليقين..

وجوه من أرض النزاع
أحمد، من مواليد عام 2007، دير الزور: شاب ضعيف البنية نحيف، أبيض البشرة، وشعره أسود مجعد. وجهه نحيف شفتاه ورديتان يعلوهما شارب وبري خفيف. خجول الطباع، يشجع برشلونة ونادي الفتوة. مقاتل شرس في لعبة ببجي الإلكترونية، ومقاتل مذعور في صفوف “الجيش السوري”، الذي تشكل بعد هروب الأسد وتسلم الحكومة المؤقتة الجديدة زمام الأمور. في صورته التي وصلتني من أقاربه، يرتدي بدلة عسكرية تحمل شعار “العلم الأسود ولا إله إلا الله باللون الأبيض”. نعم هو الشعار نفسه الذي يرمز لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام. التنظيم الذي لا يعرف عنه شيئاً.
عاش أحمد مع أخيه الأصغر تحت رعاية والدته بعد أن هجرهم والدهما وطلق أمّهما وهاجر خارج البلاد مع بداية الثورة السورية. أمضى أحمد معظم طفولته ومراهقته بين جدران المنزل، أو خلف شاشة الجوّال، أو في الحارة وحيدًا، محرومًا في معظم الأوقات من والدته التي تعمل عشر ساعات يوميًا لتضمن أن ينام هو وأخوه “شبعانين ودفيانين”، وهي مهمة كانت تفشل أحيانًا في تحقيقها.
لم يلتحق أحمد بالمدرسة أبدًا، ولا يملك مستقبلًا أبعد من تاريخ المعركة القادمة أو الاشتباك الجديد. على الرغم من انسحاب الجيش من مدينة السويداء، إلا أن أحمد ما يزال هناك، والاتصال به مقطوع منذ ثلاثة أيام. آخر اتصال بين أحمد ووالدته أخبرها فيه أنه سيذهب بعد إعلان “النفير العام” إلى القتال مع ثلاثة من أصدقائه، أحدهم ابن عمته الذي يصغره بعامين.
أسامة العبدالله، من مواليد عام 2007، من مدينة دير الزّور، توفيّ والده بينما كان مايزال رضيعاً وتخلّت عنه والدته ليعيش بعدها مع عمّته. مع بداية الثورة السورية، لجأت عمته مع أسامة وإخوته الأربعة الأكبر منه إلى محافظة الحسكة. ومع وصوله إلى سن الرّابعة عشرة كان قد تنقّل بين أكثر من عمل، آخرها في مقهى. يغسل كلّ يوم حوالي 50 شيشة ويملؤها بالماء و يضع لها المعسل. في نهاية اليوم ينام في المقهى بعد أن يقوم بتنظيفه، لأن الغرفة التي استأجرتها عمته مع إخوته لم تعد تتسع لهم جميعًا. تحمل أسامة الأجر اليومي القليل مقابل العمل الشاق في المقهى، لكنه ترك العمل نتيجة للإساءة المستمرة من صاحب المقهى، والتي كانت تصل إلى الضرب والعنف اللفظي.
تطوع أسامة لدى وحدات حماية الشعب (YPG) عندما بلغ الخامسة عشرة من عمره. لم يزر إخوته وعمته المقيمين ضمن المربع الأمني في الحسكة طوال ثلاث سنوات، حتى سقط النظام وقرر الفرار إلى دير الزور، التي أصبحت تخضع لسلطة الحكومة السورية المؤقتة والجيش السوري. وإلى هناك لحقت به عمته وإخوته. ولكن أسامة تطوع بعد وقت قصير في قوّات الأمن العام والجيش السّوري. لم يعد، كما كان يأمل إلى مدرسته ولم يرجع، كما حلم، إلى بيته ليسهر كل مساء مع إخوته يتشاجرون قليلًا وينتهي كل شيء بوجبة عشاء ونوم عميق. لا يحب أسامة الحياة العسكرية، ولا يريد أن يدافع عن وطن لم يعرف منه شيئًا سوى المقهى الذي عمل فيه، والغرفة الصغيرة التي كان يتكدس فيها مع إخوته كل ليلة، ولكن الجيش هو الفرصة الوحيدة المتاحة له والحضن الوحيد الذي لم يطرده.

ما وراء الانخراط في النزاع
لا يبدو اندفاع الشباب الصغار وحتى اليافعين للقتال أو حتى للتجنيد، في ظل الظروف القاسية التي يعيشها هؤلاء، خياراً واعياً بقدر ما يعكس نقصاُ حاداً في البدائل الآمنة والمستقبلية للشباب الضعفاء. تصبح الجماعات المسلحة، في غياب شبكة الأمان الاجتماعية والاقتصادية، بمثابة نظام رعاية، يقدم مصدراً للحماية أو المكانة أو المال ويؤمن مظهراً من الاستقرار والرعاية والانتماء في دولة منهارة غير قادرة حتى الآن على بناء عقيدة قتالية وجيش وطني.
في الأيام الماضية، رأينا انخراط الشباب اليافعين السوريين خاصة من المناطق الأكثر فقراً في الأعمال القتالية والعسكرية، فيما من المؤكد أن هذه “الحمية القتالية المنفلتة” ليست نابعة دائمًا عن قناعة أو أسباب عقائدية. بل في معظم الحالات، تكون نتيجة لتدهور الأوضاع الاقتصادية، وتفتت العائلات الناتج عن الحرب الدائرة منذ سنوات. يضاف إلى ذلك حرمان الأطفال الذين ولدوا في الحرب من حقهم في التعليم، و غياب خطط وبرامج حكومية لدمجهم في المجتمع وتأمين الخدمات الأساسية اللازمة لهم، مثل الرعاية الطبية أو تأمين فرص عمل عادلة وكريمة لهم أو لذويهم في بلد منكوب اقتصاديًا يعيش ثلثا سكانه تحت خط الفقر، حسب تقرير للبنك الدولي صدر العام الماضي، فيما الخدمات الأساسية في حالة يرثى لها، فأكثر من 40% من المستشفيات والمرافق الصحية لا تعمل، و7000 مدرسة دمرت أو تضررت، و2.4 مليون طفل تتراوح خارج المدرسة. هذا الحرمان الواسع النطاق من كل شيء تقريباً، يجعل “التطوع في الأمن” و”النجنيد لدى الجماعات المسلحة”، الخيارات الوحيدة المتاحة للبقاء على قيد الحياة أو الحصول على دخل وأحياناً، الحصول على ما يشبه “العائلة”.
أفاد تقرير الأمين العام للأمم المتحدة بتجنيد ما مجموعه 1,696 طفلاً سورياً في عام 2022، معظمهم من قبل قوات سوريا الديمقراطية إضافة إلى ما يعرف بالجيش الوطني السوري وهيئة تحرير الشام. وفي الشهر الماضي، نشر المركز السوري للعدالة والمساءلة تحقيقًا ذكر فيه أنه تحقق من 49 حالة تجنيد للأطفال في صفوف قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بين نيسان 2024 ونيسان 2025. وأشار إلى أن ذروة تجنيد الأطفال ترتفع في كل مرة تجد قسد نفسها تحت التهديد والخطر.
مسؤولية جماعية لوقف النزيف
على الرغم من أن تجنيد الأطفال يعتبر جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية، إلا أن مشكلة انخراط الأطفال واليافعين في الأعمال المسلحة، على طريقة التجييش الطائفي والحشد العشوائي، يهدد هؤلاء المراهقين بشكل فادح. ويعرضهم للاختطاف والتشوه والإعاقة والقتل، كما يعرضهم بشكل أكبر لارتكاب أعمال إجرامية فادحة بحق المدنيين العزل تحت تأثير أدرينالين الكثرة العددية أو الخوف الذي يدفع إلى المزيد من العنف.
إن حماية المراهقين واليافعين اليوم وضمان عدم انخراطهم في أي عمل عسكري واجب على الحكومة السورية المؤقتة، التي يجب أن تمارس دورها بشكل فعال وألا تقف متفرجة بين قتال أبناء الشعب الواحد، أو تصبح طرفاً فيه، كما أن مسؤوليتها بناء جيش منضبط ذي عقيدة عسكرية وطنية جامعة. ويلعب الإعلام دورًا محوريًا في توعية الشباب والأطفال حول خطورة الانسياق إلى إغراء حمل السلاح، وتجنب الخطاب العنصري والطائفي والتجييش بين الشعوب التي تعايشت بسلام منذ مئات السنين. في النهاية، يجب أن يتدخل المجتمع المدني من خلال خطط طويلة الأمد وبرامج لوقف هذه الممارسة الشنيعة، وإعادة إدماج “الجنود الأطفال” في الحياة المدنية .