شيماء شريف
“العلم نور والجهل ظلام” عبارة اعتاد أبناء جيل التسعينيات وأسلافهم كتابتها على الجانب الأيسر العلوي للسبورة الخضراء في الصف، دفعني الفضول للسؤال عما يكتبه أطفال هذا الجيل بالقلم الجاف على السَّبُّورَة البيضاء أو ما يسمى وايت بورد. كانت مدرستي القديمة تزور أحلام يقظتي كثيرًا، بل لعلني أنا التي كنت أزورها في خيالاتي. أتذكر لعبي في باحتها وجلوسي في مقاعدها الخشبية فتفوح رائحة الطباشير من أصابعي وأشعر أن ثوبي قد تلوث فعلاً بتلك البودرة البيضاء. بودرة لا تشبه الركام الذي انتهت إليه مدرستي الابتدائية خديجة الكبرى والإعدادية صبحي الحبيب وثانوية بنات الأولى في دير الزور التي أنهيت فيها تعليمي الثانوي. استحالوا جميعهم إلى ركام بسبب الحرب الذي دفعتني أنا أيضا إلى النزوح في عام 2012 إلى مدينة الحسكة شمال شرق سوريا. مضت عشر سنوات، وها أنا بعد يوم عمل طويل أمشي وحيدة، أحاول فك لغز الحكمة القديمة الي كتبتها يوماً على السَّبُّورَة. .

كان هذا حوالي الساعة الواحدة ظهراً، مرت العديد من السيارات والسرافيس حاولت إيقاف أحدها، ولكنها كانت تغص بالأطفال واليافعين الذين يجلسون فوق بعضهم البعض حرفيًا فيما تخرج أجزاء من أيدٍ ورؤوس من الشبابيك على جانبي السيارات. بعد انتظار طويل نجحت في إيقاف تكسي صعدت متذمرة فالتفت إلي السائق ونصحني بتجنب الخروج في توقيت ذهاب أو رجوع التلاميذ إلى المدارس لأن الازدحام سيكون كما هو الحال اليوم بسبب السيارات التي تتعاقد مع أهالي الأطفال لنقلهم من مناطق مختلفة إلى مدارسهم ضمن مدينة الحسكة، ففي الحسكة، القامشلي، الرقة وأرياف تلك المدن إضافة لريف دير الزور الواقع شرق الفرات تم استبدال المنهاج السوري الذي يدرس في بقية المدن السورية الواقعة تحت سيطرة الحكومة في دمشق بمنهاج خاص بالإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا. يدرس الطلاب هذا المنهاج بثلاث لغات وهي اللغة الكردية للطالب الكردي، اللغة العربية إذا كان الطالب عربي واللغة السريانية لبقية الطلاب.
لا يرسل أغلب الأهالي أطفالهم إلى المدارس التي تدرس المنهج الخاص بالإدارة الذاتية لأن الشهادات التي تمنحها هذه المدارس غير معترف بها في سوريا وربما خارجها أيضاً، فيصبح على المدارس القليلة الواقعة ضمن مناطق سيطرة الحكومة استقبالهم كما هو الحال في الحسكة إذ التحق أكثر من 125 ألف طالب للتعليم ضمن 179 مدرسة فقط (حسب إحصائية مديرية التربية في الحسكة). مع هذا العدد القليل من المدارس والذي تضرر معظمها جرّاءِ الاشتباكات الدورية بين الحكومة وقسد، أصبحت الشعبة المخصصة لعشرين طالب تضم أكثر من خمسين طالب متناثرين على المقاعد وتحت السبورة وعلى جانبي طاولة المعلم المسكين أو بالأحرى الثلاثة معلمين المساكين حيث سبب نقص المدارس وجود فائض بالمعلمين إضافةً إلى فائض الطلاب ما جعل معلمين اثنين وأحيانا ثلاثة يدخلون الصف معا ليسيطروا على عدد ضخم من الطلاب في مشهد فوضوي خانق.

تستجيب المنظمات غير الحكومية بشكل خجول في بعض المناطق فتحاول بعضها تقديم بعض الحلول لتخفيف المعاناة وتأجيل الكارثة. قدمت منظمة اليونيسيف برنامَج للأطفال المنقطعين يسمى التعليم المسرع حيث تستقبل مدارس محددة الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 إلى 14 عاماً، وغالباً ما يتم اختيار بعض المعلمين والمعلمات ضمن الكادر التدريسي لهذه المدارس “خمس نجوم” بناء على مزاجية وعلاقات إدارة المدرسة، وذلك حَسَبَ شهادة لعدة معلمات رفضن التصريح عن أسمائهن.
يدرس الطفل في هذا البرنامَج المرحلة الأولى التي تشمل منهاج الصف الأول والثاني بعام دراسي واحد بدل عاملين دراسيين ثم ينتقل إلى المرحلة الثانية وتشمل منهاجي الصف الثالث والرابع وإذا أتمها بنجاح ينتقل إلى المرحلة الثالثة وتشمل منهاجي الخامس والسادس ويستطيع الطفل الالتحاق بالمدارس السورية الرسمية بعد انجاز المراحل الثلاثة ليستكمل تعليمه الإعدادي، وهو إلى ذلك يستطيع الالتحاق بالمدارس الرسمية قبل ذلك إذا كان عمره يسمح فإذا كان عمر الطفل 8 سنوات ولم يسبق له الالتحاق بالمدرسة فيستطيع التسجيل بالمدارس الرسمية إذا نجح باجتياز المرحلة الأولى التي تشمل كما ذكرنا سابقا (الصف الأول والصف الثاني) في التعليم
وتقوم منظمات أخرى بتمويل بعض المدارس الناشئة التي تدرس منهاج اليونيسيف أيضا في كرافانات مسبقة الصنع مثل منظمة طفل الحرب التي دعمت عدة مدارس في مناطق شمال شرق سوريا كما في قريتي العزبة ومعيزيلة في ريف دير الزور بعد أن قامت قسد وبدعم من التحالف الدُّوَليّ بتطهير ريف دير الزور الشرقي من داعش. وتعتبر هذه المدارس نموذجًا يجذب الأطفال أكثر من المدارس التي تطبق التعليم المسرع نظرا للدعم الحقيقي والخدمة المتكاملة نوعا ما فهذه المدارس تقدم سلال غذائية وسلال نظافة وخدمات دعم نفسي وإدارة حالة، وتحاول تلبية احتياجات الطفل وعائلته، إضافةً أن المعلمين فيها يتقاضون أربعة أضعاف أجور المعلم في مدارس التعليم المسرع الذين بدورهم يتقاضون ضعفي أجر معلم المدرسة الحكومية. هذه التجربة تبقى صغيرة ولم تتمكن من تغطية مدن شمال شرق سوريا وبلداتها وقراها كما أنها غير موجودة تماماً في مناطق سيطرة الحكومة السورية لأنها غير مرخصة في دمشق.
تبقى هذه النماذج غير كافية ولم تتمكن من تقديم حلول للأطفال الذين حرمتهم لقمة العيش من الجلوس في مقاعد الدراسة فحولتهم ويلات الحرب إلى معيلين لأسرة كاملة تنتظرهم كل مساء للحصول على خبزها والصمود في هذه الحياة يومًا آخر.

تحت هذه الظروف والتداعيات تفقد المدارس تماماً قدرتها على استقبال الأطفال من ذوي الإعاقة بسبب استحالة وصولهم فيزيائيًا إلى المدرسة، ولو فعلت العائلة المستحيل ووصل طفلهم إلى المدرسة، فلن يكون في بيئة داعمة وآمنة جسديًا ونفسيًا وعاطفيا فقد يتعرض إلى إصابة جسدية بسبب تدافع الأطفال في الازدحام فضلا عن التنمر والسخرية وفي بعض الأحيان الشفقة، لأن الطلاب والمعلمين لا يتلقون أي تدريبات خاصة بهذه الفئة. لعلي أوضح مقصدي بواسطة قصة حدثت فعلا عندما كنت في الصف الثالث. كانت لي زميلة اسمها ليلى تأتي إلى المدرسة بكرسي مدولب. عطفت معلمتنا على ليلى كثيرًا فقررت ألا تطالبها بكتابة الوظائف وحفظ الدروس وأجلستها بمقعد فردي. كانت ليلى تمضي النهار الدراسي كاملا وحيدة حتى الاستراحتين بين الحصص كانت تبقى هنالك في الصف تتناول عروسة الجُبْن حيث لا يمكنها صعود ونزول الدرج وإذا فكر أحد بمساعدتها على نزوله فستنتهي الفرصة وهي لا تزل عند الدرجة الثالثة من الدور الأول. أحبها كل الصف، ولكني عبرت عن حبي لها أنا وبقية الأطفال من خلال جمع تبرعات فقدم كل طفل منا مبلغ 5 ليرات وأعطيناها المبلغ المجموع وكلنا فخر. لم تقل ليلى لنا شيء، ولم تطر من الفرح كما تخيلنا، ولكن ذلك اليوم كان آخر يوم نراها فيه. هذه القصة مثال بسيط عن سلوك عصبة متعاطفة من أطفال السبورة السوداء، فما بالك بأطفال اليوم الذين أمضوا أول سنوات حياتهم في حرب دموية علمتهم الكثير من العنف. لنا أن نتخيل الجحيم الذي سيتعرض له الأطفال ذوي الإعاقة. سيبدو الأمر كحبس أرنب مشاكس مع عُصفور مكسور الجناح في قفص صغير. ترى كم نحن بحاجة لجهود لتعريف المعلمين والطلاب باحتياجات الطالب من ذوي الإعاقة فقط ليشعر بأنه مثل بقية الطلاب وكي لا يتعرض للإساءة سواء المقصودة أو غير المقصودة، هكذا يبقى آلاف الأطفال منهم دون تعليم أساسي ليحرموا فرصة الاندماج بالمجتمع وتلقي التعليم مما ينعكس سلبا على فرصهم في المستقبل في العمل والعلاج، وجعلهم بالتالي أفقر وأضعف.
لم أجد إجابة لما يمكن أن يكتب أطفال اليوم من حكم على ألواح الصفوف الدراسية. يلح عليّ السؤال كحاجة أحدنا إلى عد الأشجار على جانبي الطريق أو إلى المشي بشكل متناسق على حجر الشارع الملون بلونين مختلفين كلها حاجات قد تبدو لا مغزى منها ولكننا نشعر بالانزعاج الشديد إذا تجاهلناها، ولكنني قررت تجاهل سؤالي على أية حال لأن السؤال الأهم هو (إلى متى؟؟).