الإرادة

الإرث الدموي في حمص: انتهاكات بلا صوت وخوف مكبوت من “عدالة انتقامية”

منصة إرادة

 لم تتعر حمص حديثاً. من يعرف المدينة جيداً، يدرك أن ثيابها جرى تمزيقها قطعة بعد قطعة. وأن نهر العاصي فيها لم يجف إلا بعد أن جفت عيون أمهاتها. المدينة التي ارتبط اسمها تاريخياً بين السوريين بـ “النكتة”، أصبح مرتبطاً بالمآسي والمجازر: مجزرة الساعة، حصار باب عمرو، مجزرة الحولة، ومجزرة جبل الزاوية.

صورة المدينة المشهورة بكونها “مدينة السلام”، أصبحت صورة لأحياء وقرى عدوانية ومتوجسة، وسكانها الذين يكادون يعرفون بعضهم كضيعة صغيرة، أصبحوا يعيشون في جدران تضيق على هوياتهم كل يوم. بين الهجرة الداخلية، التهجير، النزوح والتحرير، ضاعت التسميات، لكن لم تضع الطوائف. ومع سقوط النظام، لم تسقط تلك الجدران السميكة غير المرئية التي تم بناؤها بحجارة الخوف بين أولئك الذين يتقاسمون الجغرافية الحمصية ويقتلون فوقها.

منذ 8 كانون الأول وثقت الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان في محافظة حمص، عشرات انتهاكات شملت التعذيب وإهانة الكرامة الإنسانية، والرموز الدينية خلال الحملات الأمنية في محافظة حمص. اعتبرت الحكومة الانتقالية معظم هذه الانتهاكات حالات فردية “متفلتة”، عالجت بعضها واعتذرت عن بعضها وتعهدت بمحاسبة مرتكبيها في حالات أخرى. لكن استمرار هذه الحالات جعلت المحافظة خاصة في ريفها الغربي تعيش حالة من الرعب اليومي والخوف المستمر من انفجار حالات الانتقام المتبادل في وقت يرى الحقوقيون أن البدء بتنفيذ برامج العدالة الانتقالية هو الطريق الوحيد لتفادي ما أصبح يسمى “العدالة الثأرية” والدخول الذي لا رجعة منه لدوامة العنف والتذكير بالماضي الأليم لتبرير جرائم اليوم. وفي وقت لا بد من استعادة الماضي ومعالجة كل الآلام وتعويض الضحايا ومحاسبة مرتكبي المجازر والفظائع التي تمت في العقد الأخير، فإن كل عملية قتل دون محاكمة، ستزيد من تعقيد الجدران والأسلاك الشائكة بين مكونات المدينة. جدران ترتفع على الجثث والأحقاد.

قتل أم قتل على الهوية:

محمد صالح قضى ما يقارب 12 عاماً في سجن صيدنايا العسكري، ويعتبر من أبرز رجال المجتمع المدني (لقراءة المقابلة كاملة، اتبع الرابط) يرى أن استمرار العنف إلى غياب القانون العام وانتشار العقلية المليشياوية مضيفاً “ أعتقد أن الذي حصل كان انتقاماً من فصائل، وكما قلت سابقا بدون مرجعية ولكن بعقلية المنتصر في العصور الوسطى”، بينما ترى الصيدلانية إيفا اللاطي، (لقراءة المقابلة كاملة، اتبع الرابط) زوجة النحات السوري وائل قسطون الذي اعتقله الأمن السوري في العهد الأسد الإبن البائد واستشهد تحت التعذيب أن “العنف المضاد الحالي في سوريا لا يمكن تصنيفه بسهولة كعدالة انتقالية فردية أو مقررة سلفاً. ربما هو أفعال مخططة من قبل قوى مختلفة بعضها مرتبطة بالثورة وبعضها يدافع عن النظام السابق أو مصالح أخرى، وهو يحتوي أيضاً على أعمال انتقامية فردية نابعة من سنوات من الظلم والصراع والقتل الممنهج، وغياب دولة القانون وسيادة الفوضى”

أخطاء الثورة أم التركة الثقيلة؟

كانت أبرز الحوادث التي هزت المجتمع الحمصي في بلدتي مريمين وفاحل عندما نفذت إدارة العمليات العسكرية التابعة للحكومة الانتقالية في ريف حمص الشمالي والغربي، حملة أمنية في إطار ملاحقة الأفراد الذين رفضوا المشاركة في عمليات التسوية التي أعلنتها السلطات الانتقالية عقب سقوط نظام الأسد.

وقد شهدت بعض هذه المناطق اشتباكات بين مسلحين مطلوبين لإدارة العمليات، أسفرت عن مقتل واحتجاز عدد من المسلحين، بالإضافة إلى إصابة عناصر من قوات الأمن أثناء العمليات. كما رافق هذه الاشتباكات عدة انتهاكات، “شملت أعمال تخريب للممتلكات، وتعذيب وإساءات جسدية ولفظية، إضافة إلى تهديد المدنيين وترهيبهم، فضلاً عن التعدي على الرموز الدينية الخاصة بالطائفتين المرشدية والعلوية.” حسب تقرير موسع للشبكة السورية لحقوق الإنسان.

يرى محمد صالح أن ما حدث في هو تدني وعي فصائل تملك القوة مترافقة مع جهل وغرور على مبدأ (أمتلك القوة إذا أمتلك الحق بمنح الحياة والموت) مشيراً أنه “لم تتدرب القوة المتدخلة على احترام القانون العام بل هو القانون المزاجي الشخصي، وعقل مليشياوي، أما عقل الدولة لم يكن حاضراً وهذا ما نفتقده منذ زمن وكان واضحاً منذ العام ٢٠١٢”. أما السيدة اللاطي فتعتبر أن ” ما حدث في مريمين وفاحل شائك ومزيج معقد من انتهاكات حقوق الانسان، ويصعب حصر الأخطاء ب “أخطاء الثورة” أو “رد فعل المهزومين”. وتضيف أن كل سياسات النظام السوري السابق وحلفائه أسست على مدى سنوات لمثل هذا العنف، وتدعو إلى التحقق من جميع الانتهاكات التي حدثت، وفهم سياق كل حدث لتحديد المسؤوليات بدقة والمحاسبة بغض النظر عن الانتماء والجهة.

العدالة كممر إجباري

لم تتراجع الأعمال الانتقامية في حمص كما راهن الكثيرون في الشهر الماضي، بل تزايدت معدلاتها بدرجة مقلقلة خاصة مع ازدياد حالات الخطف وعودة الجثث إلى الظهور على أطراف الشوارع في تذكرة قاسية لمشاهد مماثلة عرفتها حمص بين عامي 2012-2104. ورغم أن الهويات الطائفية للضحايا تغيرت قليلاً إلا أن الدماء نفسها ما زالت حمراء، والجثث ما زالت ساخنة، وهناك أمهات وأخوات وأبناء يشعرون بنفس القهر والعائلات تعيش الخوف حتى من الحزن، لأن الاتهامات “جاهزة”، والقتلى لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. فهل تشبه الضحايا جلاديها؟ أم أن المحاسبة مخصصة فقط للفقراء والضعفاء؟

تقول السيدة اللاطي: ” إن غياب دولة القانون وسيادة الفوضى وعدم المحاسبة لكل الانتهاكات سيقوض بناء الثقة بين مكونات المجتمع السوري أو بين الأفراد والسلطة، وسيكون ذريعة لطلب تدخل خارجي غير مدروس بحجة طلب تحقيق الأمان أو الدفاع عن الأقليات كما يدّعون”.

من جهته يرى السيد صالح أن الصدامات العنيفة تتجدد فقط عندما يتراجع العدل والعملية معكوسة، ويضيف “عندما يجد السوري نفسه مواطناً له حقوق وعليه واجبات بدون تمييز سيكون هناك استقرار وبناء وهذا يتوقف على الدستور والقانون الجديد”.

“عاصمة الثورة السورية”، التي تتوسط خريطة سوريا، كانت حلقة حاسمة أثناء تقدم مقاتلي العمليات العسكرية باتجاه دمشق لإسقاط نظام الأسد، تبدو اليوم  أنها حلقة أساسية في الانتقال من سيطرة الفصائل إلى الدولة المدنية، ومن عقلية الثأر إلى عقلية العدالة، ومن استباحة الدم إلى حكم القانون.