الإرادة

الألغام ومخلفات الحرب: كابوس يطارد أحلام العودة الآمنة في دير الزور

منصة إرادة- شيماء شريف

تتلاشى أحلام السوريين في العودة الآمنة إلى مدنهم وقراهم، وتتبدد آمالهم في استعادة حياتهم الطبيعية، تحت وطأة تهديد خفي ومميت: الألغام ومخلفات الحرب المتفجرة. فبعد أربعة عشر عاماً من الصراع الدامي، تركت الفصائل المتناحرة إرثاً قاتلاً من الموت المؤجل.

السّكان في مختلف المحافظات السّورية يفقدون حياتهم أو يتعرّضون للتشوهات والصّدمات النفسيّة ويضطرون إلى إجراء عمليات بتر للأطراف بنسب تصل إلى 50% من مصابي الألغام، حسب مشاهدات ميدانيّة ولقاءات مع الأطباء في محافظة دير الزّور التي تشهد أعلى معدلات الحوادث.

دير الزور: بؤرة الخطر والإحصائيات الصادمة

دقّت منظمة أطباء بلا حدود ناقوس الخطر في تصريح صحفي، كاشفةً عن حجم الكارثة في دير الزور. فقد شهدت المحافظة العدد الأكبر من الحوادث المسجلة بسبب مخلفات الحرب المتفجرة، حيث وقع فيها ما يزيد قليلاً عن ربع الحوادث المسجلة في عموم سوريا، بنسبة 26% من أصل 471 حادثة خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام، حتى السادس من أيار.

من جانبه، حذر رئيس بعثة الصليب الأحمر في سوريا، ستيفان ساكاليان، من تصاعد غير مسبوق في الإصابات، مشيراً إلى أن أعداد الضحايا في الربع الأول من عام 2025 تكاد تعادل إجمالي إصابات عام 2024 بأكمله. وأكد ساكاليان أن الأطفال والنساء يتصدرون قائمة الضحايا، غالباً نتيجة اللعب في مناطق ملوثة أو أثناء جمع الحطب.

ويصف ويل إدموند، رئيس بعثة أطباء بلا حدود في سوريا، الواقع المأساوي قائلاً: “منذ السابع من نيسان، تستقبل فرقنا العاملة في غرفة الطوارئ بمستشفى دير الزور قرابة مريض واحد يومياً ممن أصيبوا جراء انفجار الألغام الأرضية والعبوات غير المنفجرة والفخاخ المتفجرة. وقد أصيب معظمهم في الحقول أو على الطريق، أماكن يفترض أنها آمنة لحياتهم اليومية.”

وجه الطفولة الضائع: قصة أميمة الصالح

في قرية الحصان، الواقعة على ضفاف نهر الفرات الذي يفصل مدينة دير الزور عن ريفها، تبددت حياة الطفلة أميمة الصالح، ذات السنوات السبع، في لحظة مأساوية. أميمة، ابنة لعائلة نازحة من مدينة دير الزور، كانت تلهو ببراءة عند أطراف القرية عندما انفجر جسم غريب حاولت استكشافه في أرض مهجورة. فارقت الحياة على الفور، ولم يتبق من سنواتها السبع التي عاشتها سوى حقيبة قرطاسيتها المدرسية، ودموع والديها وشقيقتها التي تركتها وحيدة.

تتحدث والدة أميمة بقلب يعتصره الألم: “نزحنا أنا وزوجي من مدينة دير الزور على أمل أن نكون في مأمن من القصف الذي طال المدينة منذ عام 2011. رزقنا بأميمة بعد ثماني سنوات من الانتظار، وفقدناها خلال دقائق معدودة. حاولنا أن نبتعد عن أي شيء يخص الحرب، عملنا في التجارة، كنت أبيع الأقمشة من بيتي وزوجي يساعدني في تأمين البضاعة. أميمة ماتت ولم ترَ بيتنا في مدينة دير الزور قط. عندما تراجعت سيطرة النظام، سألتني أميمة: هل سنعود إلى دير الزور وأذهب إلى المدرسة ونسكن بجانب بيت جدي؟ لكنها ماتت قبل أن تعيش شيئاً من هذا الحلم.”

تصاعد مأساوي: أعلى معدلات الإصابات في مطلع 2025

سجل مطلع عام 2025 أعلى معدل للإصابات بمخلفات الحرب المتفجرة. فبحسب مقابلات مع عدد من المصابين بسبب هذه الألغام في محافظة دير الزور، تضاعفت حالات الإعاقة والتشوهات وأضرار السمع والبصر وحالات الوفاة الناتجة عن الألغام بشكل لافت خلال الأشهر الأولى التي تلت التغيرات الكبرى في السيطرة على المنطقة. ويعزى ذلك إلى عجز القطاع الطبي والتقصير الحكومي وتأخر المنظمات الدولية عن تقديم الخدمة الطبية الطارئة لضحايا الألغام ومخلفات الحرب، بسبب حالة الانفلات الأمني التي أعقبت خروج أجزاء كبيرة من المحافظة عن السيطرة بعد انهيار نظام الأسد. أما السبب الأكبر فهو محاولة الناس العودة إلى بيوتهم وأراضيهم التي نزحوا منها دون التأكد من خلوها من الألغام .

سجّل مطلع عام  2025 أعلى معدّل للإصابات بحسب شهادات ممرضات وأطباء في المستشفى الوطني في دير الزور ومستشفى وائل هويدي. تؤكد عائشة الضبعان، ممرضة في قسم الجراحة العظمية بالمستشفى الوطني، هذا الواقع المرير: “كل يوم هناك مصاب جديد بلغم أو مخلفات الحرب. الفترة الزمنية الأكثر فتكاً هي أول شهرين من مطلع العام الجاري والأيام القليلة من نهاية عام 2024، أي بعد التغيرات في السيطرة ودخول قوات مجلس سوريا الديمقراطي ثم انسحابها مرة ثانية. دخل الناس من جميع قرى وبلدات دير الزور إلى المدينة، ولم يكن في استقبالهم أحد سوى الألغام ومخلفات الحرب.”

منذ آذار 2011 وحتى نهاية 2024، تم توثيق مقتل ما لا يقل عن 3521 مدنياً نتيجة انفجار الألغام الأرضية، من بينهم 931 طفلاً و362 سيدة، بالإضافة إلى 7 من كوادر الدفاع المدني، و8 من الكوادر الطبية، و9 من الكوادر الإعلامية.

الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان

عوائق العودة: فخاخ مدفونة وأزمات متفاقمة

في مدينة دير الزور، التي دمرت الحرب أكثر من 80% منها ونزح معظم سكانها إلى ريفها أو محافظات أخرى، بينما يعيش الآلاف خارج البلاد في تركيا ومصر والدول الأوروبية، تحاصر هؤلاء النازحين دعوات للعودة إلى مدينة تعوم فوق آلاف الفخاخ المدفونة والعبوات المتفجرة والألغام.

المشكلة الحقيقية تكمن في استجابة هؤلاء النازحين لدعوات العودة إلى الديار، على الرغم من الخطر الداهم لمخلفات الحرب وأرقام الضحايا المرتفعة. هذا القرار يعكس الظروف المعيشية القاسية التي يعانون منها، وفقرهم الذي تضاعف بعد التغيرات الأخيرة، بسبب فقدان معظمهم لأعمالهم وتسريح بعضهم من وظائفهم الحكومية بعد الإجراءات الجديدة للحكومة المؤقتة. المئات، وربما الآلاف، من أبناء محافظة دير الزور أصبحوا اليوم عاطلين عن العمل، نتيجة إغلاق الكثير من أرباب العمل مصالحهم التي كانت توظف النازحين، والخوف من الانفلات الأمني الذي أعقب هروب الأسد وانهيار جيشه وترك المحافظات السورية لتلاقي مصيراً غامضاً. وتزيد موجة الجفاف الأعنف منذ عقود، التي تمر بها البلاد، من معاناة النازحين وفقدان العمال والعاملات الزراعيين لأرزاقهم، مما يدفعهم لاتخاذ قرار العودة إلى بيوتهم المدمرة على الأقل للتخلص من تكاليف استئجار المنازل.

الأطفال يشكلون أكثر من نصف عدد ضحايا الألغام. في الفترة ما بين 8 كانون الأول 2024 و14 أيار 2025، قُتل 91 طفلاً وجُرح 289 طفلاً آخرون. في المجمل تم تسجيل 471 ضحية في حوادث تتعلق بالذخائر المتفجرة في جميع أنحاء سوريا، ربعها في دير الزور

International NGO Safety Organization

ألغام حديثة وجريمة مجهولة الفاعل

تتفاقم المأساة مع ظهور ألغام حديثة تم زرعها مؤخراً في بادية دير الزور، لتضيف طبقة جديدة من الخطر لجريمة لا تزال قيد مجهول. عقبة هايس الحدو (18 عاماً) وفاروق الشيحان (22 عاماً)، من قرية البوليل شرق مدينة دير الزور، يعملان في رعي الأغنام مقابل أجر مادي متواضع لا يتجاوز 50 دولاراً شهرياً لكل منهما. أصيب كلاهما في منطقة “الظهرة” (التسمية المحلية للبادية في ريف دير الزور)، فقد عقبة طرفيه السفليين، بينما فقد فاروق طرفه السفلي وذراعه اليمنى.

يقول عقبة إن المنطقة التي كان يرعى فيها أغنامه، وتقع في ريف دير الزور الغربي تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، لم تكن جديدة عليه، ولم يغامر باستكشاف منطقة جديدة للرعي، بل عاد إلى منطقة كان يعتبرها آمنة. ويؤكد أن اللغم الذي انفجر تحت قدمه كان مزروعاً حديثاً، أي بعد التغيرات الأخيرة في السيطرة. الرواية نفسها يؤكدها فاروق الشيحان، الذي أصيب بعد عقبة بأيام قليلة في أرض زراعية تقع في “الزور” (حوض نهر الفرات) قرب قرية الجنينة الملاصقة لمدينة دير الزور.

إرث قاتل: أنواع وخرائط الموت

تنقسم الذخائر المتفجرة التي تخلفها الحروب إلى نوعين رئيسيين يتهددان حياة المدنيين. النوع الأول هو “الذخائر غير المنفجرة”، وتشمل القنابل العنقودية التي انحصر استخدامها في قوات النظام والقوات الروسية، بالإضافة إلى قذائف الهاون والقنابل اليدوية. أما النوع الثاني، وهو الأكثر انتشاراً وفتكاً، فهو “الألغام الأرضية”. هذه الألغام زرعتها جميع أطراف النزاع دون استثناء، والمأساة الكبرى تكمن في أن أياً من هذه الأطراف لم يفصح حتى اليوم عن خرائط توضح أماكن وجودها. وتنتشر هذه الألغام بكثافة خاصة في شمال شرق وشمال غرب سوريا، نتيجة لتوالي قوى السيطرة على نفس المناطق مراراً وتكراراً، مما يزيد من تعقيد مهمة إزالتها وتطهير الأراضي.

جهود توعية متواضعة وأدوات غير ملائمة

على الرغم من أن التوعية بمخاطر الألغام وكيفية تجنبها والإشارات الدالة على وجودها في منطقة ما أصبحت جزءاً من عمل العديد من المنظمات والمؤسسات الخيرية، إلا أن هذه الجهود لا تزال غير كافية وغير ملائمة للطبيعة السكانية في محافظة دير الزور واحتياجات الناس. فما الفائدة من العبارات المكتوبة على الجدران مثل: “لا تقترب، لا تلمسها، بلّغ فوراً”، إذا كان معظم الأطفال والنساء، وخصوصاً في ريف دير الزور، لا يعرفون القراءة والكتابة؟

أما عن الجهود الحكومية للوقاية من خطر الألغام وحماية السكان من الذخائر المتفجرة، فتكاد تكون معدومة. لا توجد أرقام طوارئ يمكن للأهالي الاتصال بها في حال عثورهم على جسم غريب، مما يضطرهم للتعامل مع هذه الأجسام بأنفسهم. ويكمن الخطر الأكبر بالنسبة للعمال المياومين الذين يعملون في ترحيل الأنقاض من المنازل المدمرة، حيث يفتقرون لأي وسائل سلامة أو معدات أو دراية بكيفية التعامل مع الذخائر غير المنفجرة، ليصبحوا ضحايا محتملين في كل لحظة.

إن مأساة الألغام ومخلفات الحرب في سوريا ليست مجرد أرقام وإحصائيات، بل هي قصص إنسانية مؤلمة، وأحلام محطمة، ومستقبل مهدد. يتطلب هذا الوضع تحركاً دولياً عاجلاً وجهوداً مكثفة لتطهير الأراضي، وتوفير الرعاية للضحايا، وضمان عودة آمنة وكريمة للسوريين إلى ديارهم.

الألغام في دير الزور: إرث قاتل

كابوس ما بعد الحرب

إرث دموي: ضحايا الألغام في سوريا

3,521
مدنياً قتلوا

دير الزور: بؤرة الخطر

خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2025، استحوذت دير الزور على ربع الحوادث المسجلة .

تصاعد مأساوي في 2025

حذر الصليب الأحمر من تصاعد غير مسبوق في الإصابات .

الوجه الإنساني للمأساة: من هم الضحايا؟

الأطفال والنساء هم الأكثر تضرراً، حيث يفقدون حياتهم أو أطرافهم أثناء ممارسة أنشطتهم اليومية البسيطة .

أنفوغرافيك منصة إرادة عن الألغام في سوريا