“أنا هنادي، أنتمي لعائلة مكونة من عشرة أفراد، نسكن جميعنا في منزل متواضع في قطاع غزة. يتكون مسكننا من غرفتين صغيرتين ومطبخ وحمام واحد. قام والدي ببناء هذا المسكن بتفان وإخلاص لا يتزعزع، ولو على مراحل. قام في البداية ببناء الغرفتين، وبعد ذلك أضافت إحدى المنظمات الخيرية قسماً إضافياً، والذي أصبح الآن بمثابة مطبخنا. والدي عامل بسيط، ويكسب دخلاً ضئيلاً، وثقل الأعباء المالية للعائلة يقع على عاتقه. كان استكمال بناء منزلنا رفاهية لا نستطيع تحملها، بالنسبة لوالدي، كانت الأولوية لتغطية نفقات تعليم إخوتي في المدارس والجامعات. لدي ثلاثة أشقاء يعانون من إعاقات شديدة ومتعددة، بما في ذلك الإعاقة البصرية والسمعية، وبطء النمو، والعديد من الحالات الصحية الأخرى التي تتطلب اهتماماً ورعاية طبية مستمرَين.
شهدنا في الليالي الأخيرة أحداثاً لا تُصدَّق، بعضها كان تجربة صادمة لا تُنسى وتفوق الخيال. في خضم القصف الإسرائيلي المكثف لمنازل المدنيين، ناشدنا جيراننا بشكل عاجل “أخلوا المباني… اتركوا منازلكم!” أسرعنا للبحث عن ملجأ في روضة أطفال مجاورة، على أمل أن يلتزم الجيش الإسرائيلي بعدم الاعتداء على مراكز الأطفال. في تلك الليلة المظلمة، تخبطنا وتعثرنا ببعضنا بحثاً عن الأمان في تلك الروضة التي بدت فجأة بعيدة جداُ.
في لحظات الرعب هذه، كنت أتوق إلى عودة بصري لفترة وجيزة، فقط للتخفيف من معاناة عائلتي ومساعدة إخوتي. في تلك الساعة الرهيبة مرت سيارة إسعاف بالقرب منا، لكن للأسف لم تستطع نقلنا للروضة لكثرة مجموعتنا، وكان فريق الإسعاف منشغلاً بمهمة عاجلة لإنقاذ المصابين ونقل المتوفين. لم تكن حركتنا، وخاصة حركتي كشخص مكفوف، وإخوتي الثلاثة الذين يعانون من إعاقات شديدة وظروف صحية متعددة، سهلة على الإطلاق. كان القصف الإسرائيلي المرعب بمثابة تهديد دائم لأي شخص في الشارع، ولم يسبق لي أن أدركت قيمة البصر كما في تلك الليلة. تخيل التنقل في الطريق المحفوف بالمخاطر للوصول إلى الأمان عندما لا تتمكن من رؤية محيطك أو ما ينتظرك. كان الجانب الأكثر إيلاماً هو الشعور الساحق بأني عبء يثقل كاهل الآخرين.
واصلنا السير بحذر، كما لو أن الوقت نفسه قد تباطأ، ووصلنا أخيراً إلى روضة الأطفال في الساعة 3:30 صباحاً. كنا ممتنين لوصولنا إلى ملجأ كنا نأمل أن يكون أقل خطراً من منزلنا. ومع ذلك، لم يستغرق الأمر سوى دقائق قليلة قبل أن نسمع الرسالة صارخة: “لقد تلقينا تحذيرات بإخلاء المناطق المحيطة، بما في ذلك روضة الأطفال، لأنها تقع ضمن نطاق النار”. وأكدوا: “لا يمكنك الاعتماد على الجيش الإسرائيلي… يجب على الجميع الإخلاء فوراً.” لقد اخترنا الانقسام إلى مجموعتين. أحضرنا معنا بعض زجاجات المياه ويعض المواد الأساسية لملجئنا المؤقت الجديد، بيت جدي. أمسكت أمي بيدي، وتولى أعمامي مسؤولية إخوتي. وكان الظلام يكتنف الشوارع مما يجعل الحركة محفوفة بالمخاطر بسبب الحطام والحجارة والزجاج المهشم المتناثر على الطريق. بالطبع، امتنع الناس عن استخدام أضواء الهواتف المحمولة تجنباً لأن نصبح أهدافاً للطائرات الحربية الإسرائيلية. إن فكرة المشي هذه المسافة الطويلة مع عائلتي في ليلة واحدة لم تخطر على بالي قط. كانت كل خطوة بمثابة لحظة نجاة، حيث يمكن أن نصبح أهدافاً للغارات الجوية الإسرائيلية في أي حين.
هنادي، امرأةٌ فلسطينيةٌ مكفوفة تبلغ من العمر ثلاثين عاماً، تعمل في الخدمة الاجتماعية، وتقيم في قطاع غزة. في الثلاثين يوماً الماضية، عاشت تجارب يومية صعبة من النزوح القسري إلى انعدام الأمن والحماية. ويروي العديد من الأشخاص ذوي الإعاقة في المنطقة حكايات مروعة مماثلة، حيث اضطروا إلى الفرار للنجاة بحياتهم بسبب القصف الجوي الإسرائيلي الذي يستهدف المناطق المدنية، والذي أدى إلى مقتل أكثر من 11000 فلسطيني في غزة، نصفهم من الأطفال. وإذا كان جميع الفلسطينيين يعيشون اليوم تحت تهديد انعدام مقومات الحياة الرئيسية بسبب فرض إسرائيل قيوداً صارمة على الحركة، وقطع إمدادات الكهرباء والمياه وإيقاف استيراد السلع الأساسية مثل الغذاء والدواء، فإن ذوي الإعاقة باعتبارهم أشد الفئات الهشة يعيشون هذا الواقع بصعوبات مضاعفة، تجعل الحياة أقرب للمهمة المستحيلة.
عند وصولنا إلى منزل جدي، وجدنا الدمار والحطام يحيط بالمنزل. وكان الوضع أكثر خطورة هناك، حيث لا يوجد إمكانية للحصول على الخبز أو الماء أو الكهرباء. استمرت الغارات الجوية بكثافة، ولم يكن أمامنا خيار سوى مغادرة المنزل. كانت الفاجعة تلوح في الأفق، وملأت الشظايا المتطايرة المنطقة. أخذنا جدتي المسنة وهربنا من الموت الذي كان يقترب بسرعة مخيفة. ومع ذلك، عشنا الموت دقيقة بدقيقة، وشعرنا بأنفاسه تقبض على انفاسنا. كشف الوجه الحقيقي للموت عن نفسه عندما أصر والدي على عودتنا إلى المنزل الذي بناه بيديه، كي يمنحنا الأمان. قال لنا أبي إذا حدث أي شيء مؤسف، لا سمح الله، فسيكون مصيرنا على الأقل داخل المنزل الذي نشأنا فيه. ليتنا لم نفعل. كانت العودة صدمة مدمرة ستبقى محفورة في ذاكرتنا طوال حياتنا. وصلنا إلى المنزل الذي غادرناه قبل ساعات قليلة فقط، لنجده قد تحول إلى كومة من الركام والحجارة. كان ذلك تذكيراً صارخاً بالمصير الذي تجنبناه بصعوبة برحيلنا في الوقت المناسب.
هذا بيتنا الدافئ، الذي كان يُؤوينا ويحضن أغلى ذكرياتنا، أصبح الآن موجوداً في مقطع فيديو مسجل فقط. كأنه لم يكن يوماً أكثر من ذلك. كأنه لم يكن حياتنا.
لقد أصبحنا الآن نازحين من جديد. لقد فقدنا ملاذنا الآمن الذي كان يوفر لنا الحماية والأمن والراحة… والحب. كنت قد سمعت حكايات عن نزوح أجدادي ولجوئهم إلى قطاع غزة مع أطفالهم، لكنني لم أتوقع قط أن مسيرة الزمن الحتمية ستلحق بي وبإخوتي مرة أخرى. لقد تغلبت أنا وإخوتي بالفعل على العديد من العقبات كأشخاص ذوي إعاقات شديدة. ومع ذلك، كان منزل عائلتنا هو الملجأ الدافئ الذي يرمز إلى الأمل والأمان.
قصة هنادي: التعامل مع الإعاقة أثناء التهجير القسري في قطاع غزة. شاهد فيديو شهادتها هنا:
كيف يمكننا العودة إلى منزلنا، وأين منزلنا؟ الله يعلم كل غرفة في منزلنا كيف تم بناؤها. كان منزلاً صغيراً، لكنه كان أوسع منزل بالنسبة لنا. والآن بقينا نتساءل: أين ملجأنا؟ أين يجب أن نذهب؟ هل مصيرنا هو النزوح والخسارة الدائمة؟ ما الشيء الذي يريدونه منا؟ أن نترك أرضنا ونترك كل شيء؟
ما الذي فعلته أنا وإخوتي، لنستحق هذا؟ أين حقوقنا كأشخاص ذوي إعاقة في العيش الكريم؟ أين خلاصنا؟ هل خدعنا عندما قيل لنا أن الاتفاقيات الدولية تحمي الأشخاص ذوي الإعاقة المهجرين تحت الاحتلال العسكري؟
لا أدري لماذا تُفرض علينا، نحن الأشخاص ذوي الإعاقة، صعوبات إضافية، إلى جانب تحديات أخرى. هذه التحديات التي خلقها الاحتلال تهدف إلى تحطيم آمالنا وتطلعاتنا. غزة مدينتي وفلسطين وطني.
ربما يكون أمراً غير معلن، ولكنه ضمني. حقوق الإنسان لا تنطبق علينا، بل على بشر دون بشر. ولمن يريد أن يفهم، ما زلنا هنا، صامدين، حتى لو كان ذلك يعني العيش في العراء. نحن نتعايش مع إعاقتنا، دون اللجوء إلى المواثيق الدولية أو اتفاقيات الأمم المتحدة أو حقوق الإنسان. اعتمادنا هو على قوة أعلى، على الله”.
أجريت المقابلة التالية مع مركز الدراسات اللبنانية (CLS)
الذي شاركها مع
AOAV
ونشرت في 31 أكتوبر 2023
Displaced blind Palestinian woman shares her tale amidst bombardment of Gaza – AOAV.