شيماء شريف
أنتظر شروق الشمس، أنتظر سماع صوت العصافير وضجيج الأطفال الذاهبين إلى المدرسة وخرير الماء الجاري من أوعية العجائز اللواتي خرجن ليغسلن أعتاب بيوتهن لاستقبال ضيوف وأقارب وأصدقاء أو ربما غرباء، أنتظر رؤية صاحب البقالة في الحي وهو يتفاوض مع بائعة اللبن على سعر القدر الذي سيشتريه منها اليوم، وعلى الأغلب تنتهي هذه المفاوضات بشرائه بنفس سعره للأمس وبنفس السعر الذي سيشتريه منها غدا.
أحدثكم عن الصباح لأن الصباح هو جزئي المفضل من اليوم منذ أن كنت طفلة. لطالما استيقظت قبل الجميع ورتبت غرفتي وطويت فراشي محاولة لفت انتباه زوجة عمي التي كنت تحت رعاية زوجها (عمي)، بعد أن توفيّ والدي وغادرتنا أمي إلى بيت أهلها ولم ترجع حتى يومنا هذا. كنت أحاول أن أجعل زوجة عمي تلاحظ نشاطي لعلها تسمح لي بالخروج من المنزل واللعب أمام باب البيت مع بقية الأطفال في الحي.
تحقق لي كل ذلك في أحد الصباحات، وخرجت أخيراً للعب مع بقية الأطفال، وكنا أشبه بخراف تلهو تحت عين الجزار. سمعت أزيز البرميل قبل أن يقع ويقتل كل من كان في الحي، الخباز والسمان والخياط وأغلب الأطفال الذين كانوا مختبئين أصلاً لأننا كنا نلعب الطميمة، ولكنهم لم يخرجوا من مخبئهم أبداً. لقد كنت الناجية الوحيدة منهم.
تم إسعافي إلى مدينة الرقة، لكن أحداً من عائلتي لم يعرف بنجاتي. الجميع اعتقد بأنّي ميتة تحت أنقاض أحد المباني ولم يبحثوا عني، كما أن تنظيم داعش الذي كان يسيطر على مدينة الرقة في ذلك الوقت، لم يحاول الوصول لعائلتي على الرغم من أنني أخبرتهم باسمي واسم عائلتي واسم الحي الذي كنت أسكن فيه، ولكنهم تجاهلوني. كنت حينها مصابة جداً، جسدي امتلاً بالشظايا، وفقدت الجزء السفلي من فمي بالكامل، وأصيبت عيني اليسرى بشظية إصابة بالغة. صحيح أني لم أفقد القدرة على الرؤية بشكل كامل، بل بشكل جزئي، لكني حقيقةّـ كنت أتمنى لو فقدت النظر فيها دون أن تصبح عيني مخيفة بهذا الشكل. كان من الأسهل أن أكمل حياتي بعين واحدة وبوجه طبيعي مثل كل بقية البشر.
مكثت ستة أشهر في الرقة للعلاج في مكان كان أشبه بمدرسة تقوم عليه نساء يرعين المصابات والجريحات من نساء التنظيم ولأن معظم أقاربي قتلوا في نفس اليوم الذي أصبت فيه، فقد كان من المتوقع أن يتم تزويجي لأحدهم، أو عرضي لعائلة ما لترعاني. كنت ما زلت طفلة لم أتم الثالثة عشرة من عمري، طفلة متألمة وخائفة ووحيدة، لذا شعرت بسعادة كبيرة عندما وصل ابن عمي إلى الرقة باحثا عني. اصطحبني إلى بيته لأعيش معه ومع زوجته وبناته. كانت الأشهر الثلاثة الأولى هادئة، كنت أنام دافئة مطمئنة ممتنة إلى الله والبشر على نجاتي. لكن لم يمض سوى وقت قليل حتى بدأت زوجة ابن عمي تعاملني بجفاء وتصفني بأقسى الأوصاف، وعلى مدار عام كامل كنت أسمع شجارات لا نهاية لها، فهي تهدد زوجها وتخيره بيني وبينها، وابن عمي يحاول الدفاع عني فيقول بأنني مجرد يتيمة مشوهة لا يمكن لأي رجل أن يحبها.
كنت أصرخ، ولكنه لم يتوقف، لم يقل لي كلمة واحدة ولم ينظر لي، كانت مهمته محددة وواضحة أنجزها سريعاً ثم خرج يلهث ليخبر والدته التي كانت تنتظر خارجا عند الباب للاطمئنان على (رجولة ابنها وشرف العروس التي تم إهداؤهم إياها).
كانت بداية هذه الأحداث التي تخبرني عنها نسرين عام 2104 في أوج الأزمة السورية وخصوصا في مدينة دير الزور حيث عمت الفوضى وازدادت وتيرة الاشتباكات ضمن المدينة بين قوات الجيش السوري وعناصر التنظيم الذي كان قد أعلن بوبكر البغدادي في نيسان 2013 بالإعلان عن تشكليه للقتال في سوريا والعراق . تحت وطويل الحرب، تفتت شمل عائلة نسرين بعد أن خطف المرض العضال والدهم، وهجرتهم والدتهم. حسب نتيجة القرعة، توزع الأطفال اليتامى على منازل الأقارب. انتقلت نسرين، أكبر إخوتها، للعيش عند عمها، أما أخوها سائد (8 سنوات) فكان حظه هو بيت العم الثاني الذي كان سريع الغضب كثير الضرب، ما دفع سائد في نهاية المطاف إلى الهرب من المنزل إلى إحدى القرى القريبة من المدينة حيث عطفت عليه عجوز وزوجها وسمحا له بالعيش معهما لمدة عام كامل، لم يخبرهما بأنه هارب من المنزل بل قال لهما إنه لا يعرف أين عائلته خوفاً من العودة إلى حضن العم الجلاد، أما هنادي صاحبة العامين فكانت الأوفر حظاً بين إخوتها، فقد انتقلت للعيش عند عمتها التي عاملتها كما تعامل أم طيبة ابنتها، وفيما بعد التحق سائد بأخته الصغيرة وعمته بعد أن فتش العجوزان عن عائلته وعثروا على عمه الذي رفض عودته إلى بيته.
في هذا الوقت، كانت نسرين قد أصبحت في الرابعة عشرة، تحمل بقايا الشظايا والندبات على جسدها ووجهها وروحها، لكن هذه الآلام كانت أخف من النظرات والجمل التي تخبرها صراحة أنها عبء ثقيل لا أحد يريده. هكذا، اهتدى ابن عمها الذي كانت تقيم عنده إلى حل يرضي زوجته، وأولاده وبقية الأقارب.. والجميع باستثناء نسرين، فقرر تزويجها لأحدهم. وخلال إسبوعين تم الزواج لتنتقل نسرين للعيش مع زوجها وعائلته المؤلفة من أربعة إخوة وخمس أخوات. أمضت نسرين ليلتها الأولى مع زوجها خائفة منكمشة في زاوية الغرفة، بعد أن خاضت معركة خاسرة تحاول أن تتنفس دون أن يخنقها هذا القدر الذي طبق على صدرها وقلبها.
تكرر نفس هذا الحدث بشكل يومي، تعرضت نسرين للاغتصاب والعنف مراراً وبدأ إخوة زوجها بضربها ونعتها بالمحروقة والمسلوخة. كان. تدور داخل منزل زوج نسرين حربا خاصة بلا رصاص أو نار ولكنها لم تكن أقل من الحرب الدائرة في تلك الأثناء خارج جدران المنزل الذي تسكنه فقد بدأت عملية غضب الفرات التي شنتها قوات سوريا الديمقراطية على تنظيم الدولة الإسلامية في مدينة الرقة 2016-2017.
نزحت نسرين مجدداً مع عائلة زوجها سيراً على الأقدام هرباً من الرشاشات الثقيلة والقذائف الأرضية والبراميل والصواريخ وكل الفصائل التي تتحارب. وفي الطريق وقع شجار بين نسرين وأخي زوجها الذي انهال عليها ضرباً. فقدت نسرين حينها عادة الاحتمال ومشت وحيدة باتجاه آخر. لم تكن تعلم بأنها ليست وحيدة في ذلك اليوم وبأنها تحمل جنينا في أحشائها. وصلت نسرين إلى بيت عمتها واجتمعت بإخوتها أخيراً. أمضت نسرين فترة الحمل عند عمتها وولدت طفلها ماهر وحصلت على الطلاق عن بعد دون أن يعترف زوجها بالطفل الذي أنجبته.
ليست كل تفاصيل قصة نسرين مؤلمة فبعد 5 سنوات من طلاقها، تعثرت بحب حياتها “أحمد المغير” مصادفة وتزوجا بعقد إسلامي وأنجبا أختاً جميلة لماهر، ولكن ماهر ما زال بدون أوراق ثبوتية إلى اليوم، ولم تتمكن نسرين وزوجها من تثبيت زواجهما في المحكمة، لأن زوجها الأول يعرقل الأمور وينكر بأنه طلق زوجته كما أنه يشكك بنسب ماهر إليه ويرفض المثول في المحكمة ويقيم في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية ما يعرقل عملية استدعائه ويضيف تكاليف مادية باهضه لتستطيع نسرين وزوجها تأمينها للسير في القضية. لكن نسرين أحمد بيك، اليتيمة التي نجت مرات ومرات على ثقة بأن الصباح الذي تنتظره سيأتي وسيأتي مع كثير من الحب وربما… السلام.