شيماء شريف، منصة إرادة
لا أزال أذكر بيتنا في منطقة (الحميدية) في دير الزور، كان شقة صغيرة في الطابق الثالث، شقّة مؤلفة من ثلاث غرف صغيرة يجمع بينها ممر ضيّق، الغرفة الكبيرة فيها سرير كبير لوالديّ، تلتصق بها غرفة أصغر كانت مخصصة لي، ولكننّي لم أمض أي وقت فيها، أغلب اليوم ألعب في الممر الضيق أو أجلس في المطبخ أراقب أمي وهي تحضّر الطعام أو تنظيف الرفوف تتنقل بينها كفراشة تمسح على الأواني كما لو كانت تنتظر خروج المارد السحري منها، تناديني باستمرار تنظر في عينيّ مطولا ثم تقول لي ابقي قريبة مني يا زكيّة، لم أكن أعلم ما ينتظرني في المستقبل، استرسلت زكيّة في الحديث، شعرتُ بالدفء وأنا أسمع ذكريات طفولة زكيّة، بدأ هذا الدفء ينسحب من جسدي شيئا فشيئا عند تقدمها بسرد قصتها هي وأختها (هبة) ليسكن البرد والقشعريرة عظامي ويتمزّق قلبي إذ كيف لهذه الأكباد الرطبة أن تعاني كلّ هذا.
هبة محمد السالم طفلة في الثالثة عشرة يعني بعمر الأحداث الدائرة في سورية ولدت عام 2011، في مدينة دير الزور شمال شرق سورية، كانت الطفلة الثانية في العائلة بعد أختها الّتي تكبرها بسبع سنوات (زكية). كانت سعادة والدة هبة لا توصف بولادتها لأن حملها (عزيز)، يعني لا تحمل الأم إلا كل عدّة سنوات مرّة ولهذا حظيت هبة برعاية كبيرة في أول عام من حياتها، كان الوالدان قد انتهيا من دفع أقساط المنزل وبدأت العائلة تشعر ببحبوحة اقتصادية نوعا ما، ما لبثت أن تلاشت نتيجة لفقدانهم المنزل الذي نسفته القذائف أثناء الاشتباكات الّتي اشتعلت في أغلب أحياء المدينة، كانت البيوت تتهاوى عام 2012 مثل العمدان المشيّدة من أوراق الشّدة، أو أحجار الدومينو. صمدت العائلة على الرغم من أزيز الرصاص وصفير الطائرات الّذي يحزّ القلب ويخطف السّمع، وأصوات المدرعات الّتي كانت ترجّ الشارع كلّ مساء. كانت الأيام تمر بسرعة تتشابه مع الأشهر والسنين ومع حلول عام 2014 بدأ حصار دير الزور والّذي لم يستشعر الناس خطره نظراً لوجود المونة في بيوتهم. اعتقد كثيرون حينها بأن الحصار سينتهي قبل انتهاء موادهم الغذائية، ومع بداية 2015 نفد صبر تنظيم (داعش) المتطرف فأطلق العنان لشياطينه لتطبيق حصار قاس ولا إنساني وربما لا يمكن مقارنته إلا بالحصار الذي يعيشه الناس اليوم في غزّة منذ أكثر من ستة أشهر، والّذي تطبقه سلطات الاحتلال الإسرائيلية.
الجميع اعتقد بأن هذا الحصار الخانق سينتهي بعد عدّة أيام، ولكن هيهات. استمر الحصار على الرغم من الجوع وانقطاع الكهرباء بشكل كامل عن المدينة والذّي تسبب بدوره بانقطاع الماء أيضاً، ولم تتوقف المأساة عند هذا الحد، بل بدأت مرحلة استهداف الأحياء المحاصرة بالقذائف من قبل داعش. شعر والد هبة بأن الصمود عبارة عن انتحار، ولحسن الحظ كانت المهلة لاتزال مستمرة حيث سمح التنظيم لمن يرغب من المدنيين بالخروج قبل أن يحكُم على جميع من تبقى ضمن الأحياء المحاصرة بالموت إما جوعاً، أو عطشاً، أو بنيران القذائف التي سيمطر بها عروس الفرات (دير الزور).
حمل الأب القليل من الأمتعة، بينما حملت الأم طفلتها هبة 4 سنوات بيد وأمسكت بيدها الأخرى طفلتها البكر (زكيّة)، كان الطريق الوحيد الذي يُخرج من المدينة يمتد لأكثر من 3 كم ويمنع مرور أيّة مركبات خلاله، رمت العائلة أمتعتها أثناء الطريق وتناوب الأبوان على حمل هبة والّتي كانت لاتزال صغيرة جداً لتمشي كلّ هذه المسافة، على الطرف الآخر بدأت مهمة البقاء على قيد الحياة من جديد، وجدت العائلة نفسها في العراء وسط الكثير من الوجوه الغاضبة الملتحية، ودوريات الحسبة المنتشرة بكثافة في ريف دير الزور الغربي. زكية البنت الأكبر في العائلة لاتزال تتذكر الحسبة عندما قامت داعشية من بلد عربي بٍضرب والدتها بعصا خشبية قائلة لها (نميص يا فاسقة) لأنها حاجبيها رفيعين ولأنها لم تكن تغطي وجهها بشكل كامل في صدمة وذهول من الأم الّتي لم تتجرأ على الدفاع عن نفسها، بل كانت منشغلة البال على الأب الذي أودع العائلة في الشّارع بهدف البحث عن مأوى، أيّ سقف يأوي العائلة ويقيهم برد الشّتاء القادم. عاد الأب وقد عثر على غرفة للإيجار كانت قبل ذلك زريبة للبقر، ولكن أصحابها قرروا استثمارها وتأجيرها لعائلة هبة. تجرّعت العائلة مرارة النزوح والخوف والفقر، وشرب المياه الملوثة. كان تأمين الطّعام تحدياً يومياً بالنسبة لوالد هبة، ولأنها كانت الطفلة الأصغر في العائلة تأثرت هبة بشكل أكبر وبدت عليها مضاعفات كبيرة في الجهاز الهضمي كالاستفراغ، وآلام في المعدة، حرارتها كانت ترتفع ليلاً ونوبات تشنّج بدأت تعصف بجسدها الغضّ كسنبلة الربيع، لم تعد هبة تقوى على المشي أو الجلوس وحدها، لم يكن في الإمكان العثور على طبيب مختص فاضطر الأب للذهاب بهبة إلى مشفى (نبض الحياة) في قرية هجين في أقصى الريف الشرقي لدير الزور، لا أدوية ولا علاج ولا أطباء مختصين لأن داعش قامت بتهجيرهم ولم يتبق سوى قلّة نادرة يعملون لصالح التنظيم ذبلت الطفلة يوما بعد يوم.
من خلال الإنترنت، تواصل والد هبة مع طبيب خارج المنطقة والّذي شخّص الحالة على أنها شلل ناتج عن تدمير في خلايا المخ، ونسبة الإعاقة مرتبطة بنسبة الخلايا المتضررة، أما عن سببها فيعود إلى التهاب في أغشية المخ نتيجة لهذه الحياة البرّية الّتي وجدت نفسها فيها فجأة وهي طفلة مناعتها لاتزال ضعيفة، ولحسن الحظ بأن إعاقة هبة لم تتجاوز 40% نسبة كان يمكن تجنبها أو التخفيف منها لو أنها تلقت الرعاية الصحيّة الجيّدة في الوقت المناسب.
والد هبة ووالدتها تنفسا الصّعداء إذ أصبح بالإمكان الفرار إلى مناطق لا يسيطر عليها هؤلاء، أرض جديدة مثل أرض الأحلام التي خطط للهرب إليها عدنان ولينا، الفلم الكرتوني الشهير، أرض يمكن أن تتوقف حالة الطفلة هبة عن التراجع أكثر
في نهاية عام 2017 وبداية عام 2018، لمحت العائلة نوراً ينبعث من نهاية النفق، نفق الأنقاب السوداء والتي أصبحت لباساً شرعياً كاملاً يُفرض على كل أنثى. لكن الفرج ربما باتي قريباً، فداعش بدأت تتلقى الصفعة تلو الأخرى، ضربات التحالف جواً واشتباكات من عدة جبهات براً. والد هبة ووالدتها تنفسا الصّعداء إذ أصبح بالإمكان الفرار إلى مناطق لا يسيطر عليها هؤلاء، أرض جديدة مثل أرض الأحلام التي خطط للهرب إليها عدنان ولينا الفلم الكرتوني الشهير في التسعينات، أرض يمكن أن تتوقف حالة الطفلة هبة عن التراجع أكثر.
لعدّة أيام سعى الأب لإيجاد مهرب بإمكانه إيصال العائلة إلى مكان آمن، أي مكان يوجد فيها طبيب يعالج هبة، وبالفعل عثر الأب على مُهرّب وعدهم بأن يوصلهم إلى مناطق سيطرة قسد، تحركت السيارة الحلفاوية (سيارة مخصصة لنقل الأثاث والحيوانات مجهزة بصندوق خلفي) ليلاً وبعد التحرك الحذر، توقف المهرب بعد ساعتين ليناوله الأب مبلغ 35 ألف عن كل شخص، وقال المهرب له (أنت الآن في منطقة تدعى وادي البقر) بعد حوالي نصف ساعة من المشي ستكون في مناطق سيطرة قسد، ولم يضف أية تفاصيل.
بدأت العائلة بالمسير بالكثير من القلق والتساؤلات، ولم تتوقف إلا على صوت وابل من الرصاص، وصرخات الأم.
وصفت لي زكية الموقف قائلة كنت أمشي بجانب أمي، وكانت هبة على ظهر والدي، وعندما سمعنا الرصاص، وضع والدي هبة على الارض، امي سقطت وسحبتني معها، وقعتُ بجانبها على الأرض. كانت النباتات تغطي جسدينا تقريبا، قالت لي لا تتحركي من هنا مهما حدث، وإذا مات الجميع انتظري قليلاً حتى يهدأ كل شيء ثم أكملي طريقك. كانت أمي مصابة، زحف أبي باتجاهنا، وضع هبة بجانبي، ثم تحركا معاً أبي وأمي بعيداً، رأيت بعيني الرصاص يخترق الحشائش والأعشاب من حول أبي وأمي. عرفت بأنهم ماتوا. كانت ليلة مقمرة. أكره القمر كثيراً الّذي ساعد الدواعش على الرؤية في تلك الليلة، لن أنسى هذا أبدا، كل ليلة أدعو لهما بالرحمة، وأخبر أُمي بأنّي نفّذت ما طلبته مني، بعد أن اختفى صوت الرصاص تسمّرت بمكاني كجثّة لفترة ربما ساعة أو أكثر لم أكن أشعر بجسدي ولا بما حولي، فقط كنت أضع يدي المرتجفة على فم هبة خشية أن تبكي، كدت أن أخنقها في الحقيقة، ثم تابعت المشي حاملة اختي، كنت ازحف معظم الوقت أجرّ هبة خلفي، وقبل الفجر أمسكت بي نقطة تفتيش تابعة لقسد، عرفت بأنّهم ليسوا دواعش عندما رأيت بينهم امرأتين، التفتّ إلى الخلف لأطمئن والداي بأنني ربما أكون وصلت إلى أرض الأحلام، كنت جاثية على ركبتاي وهبة مستلقية إلى جانبي، اقترب مني أنا وأختي رجل عرفت لاحقاً بأنه يخدم على النقطة العسكريّة التابعة لقسد مع رفاقه وأشار إليهم بيده ليجلبوا لنا بعض الماء، نقلونا إلى مخيم الهول وأقمنا في خيمة كبيرة تحت رعاية منظمة إنسانيّة، وبعد عدة أشهر اهتدى عمّي إلى مكاننا وعدنا معه إلى مدينة دير الزور الّتي غادرناها أول مرة بسبب الحصار، أنا متزوجة الآن وهبة لاتزال تعيش متنقلة بين بيتي عمي الّذي جلبنا من المخيم وعم آخر.
بعد أن اختفى صوت الرصاص تسمّرت بمكاني كجثّة لفترة ربما ساعة أو أكثر لم أكن أشعر بجسدي ولا بما حولي، فقط كنت أضع يدي المرتجفة على فم هبة خشية أن تبكي
اليوم أشعر بأنني شخصان يعيشان في جسد واحد، زكيّة المرأة التي وجدت نفسها مسؤولة عن زوج وبيت تفكر في الغد كثيراً وتقلق من كل شيء، وزكيّة الطفلة المدللة الّتي تستمتع بالفرجة على أمها أثناء تحضيرها الطعام في مطبخهم الصغير قبل ثلاثة عشر عاماً، كلما تعبت زكيّة الكبيرة وأرهقها هذا الدور الذي أجبرتها عليه الحياة استيقظت زكيّة الطفلة لتجعلني أكثر مرحاً وبراءة، وبين هذه وهذه هنالك زكيّة ثالثة لاتزال جالسة إلى جانب جسد أمها البارد لا يمكنها نسيان صوت ارتطام جسد والديها بالأرض، أو رائحة العشب بعد أن امتزج بالدم.