الإرادة

اسمي رشا وهذه حكايتي: العودة إلى رحم الأم

  منصة إرادة- مادلين جليس             

عملت لأكثر من عشرين عاماً متطوعة في دار الكرامة، أساند المشلول، أمسك بيد الكفيف، وأساعد كل من يحتاج لمساعدة من غيرهم. عشت معهم أكثر من أهلي، رافقتهم ومشيت معهم أكثر من إخوتي. ثم ومن دون أن أدري، وعلى غفلة مني، وجدت نفسي فرداً منهم.

اسمي رشا التلّي، وهذه حكايتي مع عائلتي الجديدة.

يوم كباقي الأيام

لم ألازم المنزل ساعات طويلة، كنت أتخذه مكاناً للنوم فقط، وكثيراً ما كنت أقضي الأيام في المخيمات والرحلات مع ذوي الاحتياجات الخاصة.
طفلة ثم صبية ثم متطوعة، كما كل الفتيات، مرت أيامي جميلة وعادية للحد الذي لم أتوقع تغييره.
لكن صيف عام ٢٠١٥، وتحديداً يوم 29 أيار، قلب حياتي بغمضة عين.
أحيانا لا نُعير الطقس اهتماماً خاصاً، لكن عند حدوث شيء ما مفاجئ، نصدم لما نتذكره من تغيير لا تفسير له سوى مساندة الطبيعة أو تحذيرها لنا، وهذا ماحدث معي.
كان الجو جميلاً والشمس ساطعة بروعة لا توصف، قليلاً من الوقت، كانت الغيوم تملأ السماء، تنذر بقذائف صاروخية لا ندري وجهتها، لكنني وكما أصدقائي حاولنا الركض والهرب منها.
بعد دقائق قليلة مرّت حافلة لنقل الركاب، رأيتها الخلاص لرحلة الهروب من القذائف، وركضت نحوها بكل قوتي، لكني لم أشعر كيف ومتى تعثّرت قدماي، وكيف ارتميت أرضاً، لم أعرف سوى أن وجعاً سكن قدمي، وحولي أناس كثر يحاولون مساعدتي.
“بسيطة، كسرت رجلي”، رددت هذه العبارة، فيما الناس تحاول مساعدتي للذهاب إلى المستشفى “وياليتها كسرت حقاً”.

الجبر الثقيل على الجسد والروح

في المستشفى كانت الأمور قد بدأت بالتعقيد. وربما تكون التشخيصات الخاطئة  وما تلاها من إجراءات طبية غير مدروسة هي ما قادتني إلى ما يسميه البعض “قدراً محتوماً”. فقد أخبرني الطبيب أن عظامي هشة جداً، حتى أنه وصفها بالبسكويت لشدة هشاشتها، وقرر إدخال سيخ معدني في ركبتي لإيقاف تطور الكسر. كان السيخ يمتد بين طرفي ركبتي، ويحمل أكثر من ٢٠ كيلو غراماً من الرمل، لدرجة أنني كنت عاجزة عن الحركة تماما في تلك الفترة دون مساعدة شخصين. وعلى الرغم من قدرتي على تحمل الألم، إلا أن الوجع الذي أصابني حينها، كان أقرب لما يسمى بالموت.

لكن مصيبتي الأكبر كانت عندما اتجهت لمشفى خاص، علّي ألقى عناية واهتماماً أكبر، ففي أثناء إجراء العملية من قبل طبيب جراح، تم قطع الوتر الحركي لكن دون أن أعرف، إضافة إلى خرش المفصل وضرب الأعصاب، وكل ذلك دون أن يتجرأ الطبيب المخطئ بالاعتراف بما اقترفته يداه، بل أخذ يبعث فيّ أملاً أكبر بالشفاء وقام أيضاً بإدخال سيخ في ركبتي مما أدى لانزياح “صابونة الركبة” من مكانها، ومن ثم قام بوضع الجبص على رجلي، بوزن أكثر من وزني بعدة كيلو غرامات، حتى أن ما من أحد كان يرى هذه الجبص إلا وكان يفاجأ بحجمه الكبير الذي منعني من أدنى حركة صغيرة، ولذلك كنت في ذلك الوقت بحاجة لشخصين اثنين لأتمكن من الانتقال من جهة لأخرى.

مرة أخرى بدل الطبيب الجبص، ثم ثانية وثالثة، كل ذلك كان يتم كي لا أعرف أن الوتر الحركي لدي مقطوع وأن خيط الأمل بعودتي للمشي مقطوع أيضاً. بعد عدة مرات من تبديل الجبص، وعدة نوبات من الألم المصاحب له، أكد الطبيب أن هناك خطأ في رجلي وأن قطع الوتر لم يكن بسببه هو “أي الطبيب” بل بسبب حركة خاطئة مني.

عودة إلى كنف الأم

ألم وصراخ وعمليات، تعب ووجع لايحتمل، وعلى الرغم من كل ذلك الألم وكل ما عانيته منذ إصابتي، إلا أنني أقر أن المعاناة الأكبر كانت عند أمي، حيث أصيب والدي بمرض السرطان في الوقت نفسه، مما جعلها مقسمة بيني وبينه، بين عملياتي وبين جرعات أبي، بين صراخي وبين ألمه الصامت، في تلك الفترة، شعرت أن عمر أمي زاد كثيراً، وأن الهموم بدأت ترتسم على وجهها بشكل واضح أكثر من ذي قبل.
لكن تلك الفترة الصعبة قرّبت أكثر بيني وبين هذه المرأة الجبارة القديسة في آن معاً، فقد كنتُ فتاة متمردة تطالب بالحرية والاستقلال، حياتها مقسمة بين النازحين، وذوي الإعاقة، ومراكز الإيواء، وجلسات الدعم النفسي للسيدات.
لكن حياة العمل الصاخبة ذهبت كلها مع شظايا القذائف التي كانت تتساقط حولي ساعة وقوعي وإصابتي.
ذهب كلّ شيء وحلت مكانه ألفة وصداقة عميقة بين الأم وابنتها، ألفة كانت غائبة طوال سنوات العمل والانشغال مع الناس، وعادت اليوم لتأخذ مكانها الطبيعي في تلك العلاقة اللطيفة.

ألم بعد ألم

في تلك الفترات أصبح ألم ساقي لا يحتمل، كان مجرد ثني القدم يجعلني أصرخ بأعلى صوتي، أكاد أبكي ألماً ووجعاً لايحتمل. ولذلك وبعد معاينة طويلة، اقترح الطبيب إجراء عملية جديدة بغرض إزالة السيخ الحديدي بعد أن تبين له أن تحرك من مكانه.
هذه المرة، اقترح الطبيب إجراء تحاليل لوظائف الجسم، وتبين أن لدي نقصاً شديداً في الكلس في جسمي، وأن المشكلة كانت في فرط نشاط الغدة الدرقية، حيث يتحكم هرمون هذه الغدة في تنظيم مستويات الكالسيوم في الجسم، ما يؤدي بطبيعة الحال إلى زيادة فرص تكسر وهشاشة العظام.

كانت عظامي تتحلل في صمت لسنوات، وبحكم خسارة الكالسيوم الكبير كانت معرضة للكسر في أي لحظة، وقد كُسرت مرات كثيرة بعد تلك الحادثة. كان جسدي يرسل لي كثير من الرسائل، كالتعب والأرق وآلام العضلات وانخفاض ضغط الدم، لكني تجاهلتها في زحمة الحياة، مثلما نتجاهل كثيراً من النعم التي تبدو أمراً مفروغاً منه وعادياً إلى أن نخسرها. وكما يُقال إن العافية إذا دامت جُهلِت وإذا فُقدت، عُرِفت.

الخلاص في العمل

منذ عام 2015 وحتى هذه اللحظة، لازالت أتابع علاج ساقي، وأجري عمليات التصحيح. وأعيش الخوف من كسر إضافي، وأنتظر عظامي أن تلتئم لتلتئم كسور روحي.
خمس سنوات منذ لحظة الإصابة، خمس سنوات بأشهرها وأسابيعها وأيامها، كنت أعيش فيها في غرفتي، اعتزلت الحياة والعمل والناس، خمس سنوات لم تستطع عيناي أن تبصر نور الأمل في أي شيء، بل على العكس، كنت أشعر أنني غير قادرة على الاستمرار فيما أنا عليه، لدرجة أنني رفضت الكرسي المتحرك، ورفضت أي صفة تطلق علي بسبب إصابة قدمي، أغلقت نوافذ الأمل أمامي، وجلست حزينة في عتمة اليأس.
لكن حب الحياة لم يتركني على حالي، استمر بمحاولات العودة لي، فمرة يطل من نافذة غرفتي، ومرة يطرق باب منزلي، وأخرى أراه يتسلل مع ابتسامات أهلي وأصدقائي.
في صباح أحد الأيام استيقظت فوجدته أمامي، ووجدتني أشعر بالشوق له، فما كان مني إلا أن فتحت له أبواب قلبي ونوافذ روحي، وانتظرت الكرسي المتحرك الذي سيساعدني لأعود رشا النشيطة المتفائلة. ومنذ ذلك الوقت عادت لي الحياة، وعدت لها.
أنا اليوم أعمل في مستشفى “ابن رشد ” لعلاج الأمراض النفسية والإدمان، أتنقل على كرسيي المتحرك، أعمل عن ثلاثة أشخاص “كما يؤكد مديري في العمل”.
ولازلت بقوة تساعدني على متابعة العمل التطوعي والإنساني سواء مع ذوي الإعاقة أو مع غيرهم من المحتاجين. لقد عادت إليَ الحياة، أو أنا عدت إليها.

One Response

  1. انت انسانة رائعة يارشا الالم والأمل دليلك لحياة أفضل دوماً مانها الأحلى بس الأقوى وكل ماآمنتي بحالك وبدعم ربك جنبك وبقلبك بتقوي اكتر واكتر وبيصبر قلبك اكبر واكبر
    لايك كبيرة وقلب احمر مني الك
    وللحياة بقية❤❤❤