شيماء شريف
كانت اميرة أم كبقية الامهات. تضحك مع ابنائها، تصرخ عليهم لأنهم لم يرتبوا تخوتهم، توبخهم لأنهم تأخروا مساء وتطبخ لهم كي تراضيهم دون تتكلم. كانت تزن كي تزوجهم باكرا وتتصنع التجاهل إذا سمعت ابناءها يتشاجرون. تحفظ اسرارهم جميعا وأعياد ميلادهم واسماء الفتيات اللواتي أعجبن بهن يوما وأكلاتهم المفضلة. كانت أما وأصبحت خيالا يبحث عن صاحبه.
أميرة محمد طه أم مكلومة، توفيّت بحسرتها بعد رحلة من البّحث الدؤوب عن مصير ابنها خالد رمضان الشهاب الّذي غيبته السلطات الأمنية، فقط لأنّ أبناء عمومته كانوا من أوائل المنتسبين إلى الثّورة. لم تتمكن فروع المخابرات من الإمساك بأصحاب العلاقة فاعتقلوا خالداً كنوع من الانتقام من العائلة.
في أوّل عيد بعد سقوط نظام الأسد تروي خلود رمضان الشهاب قصّة اعتقال شقيقها خالد وتجلس عند قبر والدتها تعايدها وتوّزع الحلوى الّتي تصنعها لأوّل مرّة في العيد منذ اعتقال شقيقها.

نيسان-2013
من حاجز السلامة عند مدخل دير الزور، يختفي أخي في ربيع عام 2013. علمنا بتحويله للأمن العسكري بدمشق بعد شهرين عن طريق جارنا المساعد في الفرع الّذي طلب أوّل رشوة، وكانت حينها مبلغ 25 ألف ليرة. بعد يوم واحد على معرفتنا مكانه، لحقنا به، أمّي وأنا، إلى دمشق وهناك تحوّلت حياة عائلتنا كلّها وخصوصاً والدتي إلى جحيم.
في بيتنا في دمشق، زارتنا إحدى الجارات وزوجها متلهفين إلى لقائنا، أخبرونا بأنّهم علموا عن طريق أقاربهم من الضبّاط بأنّه سيتم إعدام أخي يوم الاثنين القادم، ويجب أن نتدارك الموقف قبل أن نفقده إلى الأبد. قدّمت لهم أمي ليرتين من الذّهب لتختفي جارتنا تماماً وتغلق هاتفها.
شباط- 2016
أنا وأمّي نقف مطولاً أمام السّجن في القابون. يخرج معتقل بثياب رثّة خفيفة مع أنّ البرد كان جليديا. تسرع أمّي وتشتري من بسطة قريبة بدلة صوف تعطيها للسجين الّذي خرج من القبر وبدأ للتو التأقلم مع الشّارع والنّاس من حوله، تلف كتفيه بكنزة الصوف وتسأله عن ابنها إذا كان يعرفه أو سمع باسمه، أتذكر وجوه عدة رجال فعلت أمي معهم ذات الشيء، يلفّون سراويلهم المهترئة بخيط أو كيس بلاستيكي، فالأحزمة في المعتقل ممنوعة إلا على السّجانين الّذين يلبسونها حيناً ويضربون بها أخي والمعتقلين الآخرين أحياناً. علق في مخيّلتي شعيب الّذي حصل على البراءة بعد عدّة أشهر من الاعتقال التّعسفي، كان شاباً ثلاثينياً هزيلاً، جلده متآكل بفعل الجرب، خرج شعيب حافي القدمين، يسيل الصديد من قدميه، أعطته أمّي 1500 ليرة حينها كمساعدة قال لها على الرّغم من الحالة المزرية الّتي كان بها :((أنا ماني شحّاذ يا خالتي) قالت له أعرف أنت كنت معتقلاً وابني معتقل، فتحت صورة أخي الكرتونيّة فغطّت كفّ يدها وسألته إذا كان رأى أخي من قبل أو سمع باسمه، قالت له بتلعثم وبنظرة ثابتة متوسّلة (خالد رمضان الشهاب)، قال لأمي لا أعرفه ومضى في سبيله بعد أن أعطته رقمنا ليتواصل معها في حال تذكّر أي شيء يتعلّق بأخي، السّاعة الثّالثة بعد منتصف الليل يرن هاتفي وإذا به صوت شعيب يصرخ بشكل هستيري ويترجى أمّي أن تسعفه، أصرّت أمي أن نسعفه إلى المستشفى لعلّ وعسى أن ترسل العناية الإلهية من يسعف أخي أو يعينه، بعد أن وصلنا إلى شعيب تبين أنّه حجز ليلة في الفندق بألف ليرة، وبالخمسمئة المتبقية اشترى معقماً للجرب الّذي أحرق ما تبقى من جلده. أسعفناه فوراً إلى المستشفى، وقدمنا له بعض الطّعام ثمّ اتصلنا بوالديه اللذين لم يصدقاني أوّل الأمر من كثرة ما مرّ عليهم من أكاذيب ومحاولات ابتزاز مثل الّتي تعرضنا لها وتعرضت لها عائلة كلّ معتقل في سوريا.

أمضت والدتي آخر خمس سنوات من حياتها من محكمة إلى محكمة، ومن سجن إلى سجن، لم يبق سمسار في دمشق ولا في دير الزّور لم يساوم أمّي على حياة ابنها. وكانت أحدهم محامية احتالت عليها بمبلغ ستمئة ألف ليرة سورية أعطتها المبلغ أمّي وقبلت قدميها وقدمي زوجها وتوّسلت إليهم لمساعدتها. كانت تعدنا في كلّ مرة بخبر عن أخي، أو موعد لإخلاء سبيله، كنّا نقابلها أنا وأمي بترقب وصبر نافد بينما كانت تجلس أمامنا بوجه رخامي، وعينين أقرب لعيني الزّواحف، تدور في حجرتيها في جميع الاتّجاهات بحثاً عن كذبة جديدة، وكسب المزيد من الوقت، وبعد ستّة أشهر قالت لأمّي بنبرة أقرب للتوبيخ: (مالك عندي شي، وإذا بتفتحي تمك بحرف رح ابعت بنتك لعند أخوها).

نيسان- 2021
خالد كان متزوجاً، وأب لطفلة، وزوجته حامل في طفلتها الثّانية، بنات أخي كانتا ما أبقى أمي على قيد الحياة كانت تحكي لهما قصة عن والدهما كل يوم. تعاهدوا مراراً مع أمّي أن يتذكروا والدهما كما تتذكر هي ابنها، ووعدتهما مراراً بأنّها ستبقى حتّى آخر يوم في حياتها تبحث عنه، وهذا ما حدث فعلاً. توفيّت والدتي بعد آخر عملية ابتزاز، عندما اتّصل بها شخص من الأمن العسكري، وكان يعرف معلومات عن أخي خالد. أخبر أمّي بأنه سيتمّ إخلاء سبيل أخي وبأنّه الآن في المستشفى يتعالج بسبب إصبع رجله المقطوع. أخبرها بأنّه عليها تحويل مبلغ من المال قبل أن تتمكن من رؤية ابنها، وأعطاها علامات تعرفها أمّي عن أخي الأمر الّذي جعل الكذبة محبوكة أكثر، أرسلت أمّي له المال وأغلق خطه فور استلامه الحوالة. في نفس الليلة كانت أمّي في العناية المشددة، وتوفيت بعد فترة قصيرة أمضتها معلّقة بين الحياة والموت.
كانون الاول- 2024
لم يخرج خالد من المعتقل. انتظرناه يوماً ويومين وأسبوعاً وأسبوعين. ذهبت مع ابنتيه من سجن إلى سجن نبحث عن أثر له أو ورقة أو كتابة على حائط. ما زلنا ننتظر معرفة مصيره مثل عشرات آلاف المغيبين، وما زلنا ننتظر العدالة له ولرفاق درب الآلام الذين تركوا لنا ديناً ثقيلاً في أعناقنا لا يفك ديته إلا محاسبة القتلى وتجار الدم.
نيسان- 2025
العيد بالنسبة إليّ هو أخي وبنات أخي اللواتي حفظن عهد جدتهنّ وبتن مواظبات على تذكّر أبيهم كلّ يوم وبشكل أكبر في العيد الّذي كنّ يرفضن الاعتراف بقدومه أو شراء ثياب جديدة لاستقباله، ولكن على الأقل في هذا العيد سنمضيه بشكل أهدأ فعلى الأقل أخي لا يتعرّض للتعذيب ولا يتألم، ربّما نام نومته الأخيرة في مقبرة جماعيّة أو أطعم جثمانه لوحوش البادية وعزائنا بأنّ الشاة إذا ذبحت فإنّ السلخ لا يؤلمها.