الإرادة

إصبع السبابة الأيسر الذي لا يخذلني أبدًا

مياس سلمان

أصبحتُ مقتنعًا تمامًا أن وظيفة العقل الأساسية ليست تحقيق النجاح فقط، بل ابتكار حلول مبدعة لترميم الانكسارات المتكررة: انكسار الروح، وانكسار المشاعر، وأحيانًا التعامل مع خذلان جسدك لك. يصل إبداع العقل البشري أحيانًا إلى اختراع حلول لتغطية النقص الناتج عن العجز الجسدي أو التعامل مع الظروف الطارئة أو الدائمة التي يتعرض لها الإنسان، بما في ذلك الإعاقات الجسدية والحسية.

حدثني صديقي الكفيف يومًا عن كيفية تعامله مع فقدان البصر، وكيف أن ذلك جعل حواسه الأخرى أكثر حساسية، خاصة الروائح والأصوات. برر ذلك قائلًا: “ذاكرتي متنبهة جدًا للأصوات والروائح وتحتفظ بها بشدة، لتعويض نقص الصور البصرية في مخيلتي. لذلك، أملك ذاكرة قوية تخزن تقريبًا كل ما أسمعه وأشمه”.

لا أنكر أن موت بعض الأعصاب لدي نتيجة الشلل الجزئي في اليدين كان التحدي الأكبر في حياتي. فإمساكي القلم بات مختلفاً، وكذلك الكأس والملعقة وغيرها من الأشياء التي تحتاج إلى كلتا اليدين. يد تمسك الأشياء، وأخرى تثبتها كي لا ترجف أو تتشنج. مع مرور الوقت، أصبحت هذه الأشياء روتينية بالنسبة لي. فأنا أكتب بأصبع واحد على الحاسوب، إصبع السبابة الأيسر، لكنني أحتاج إلى الإمساك بمعصم يدي اليسرى بيدي اليمنى لتثبيتها. وبعد ذلك، تصبح الكتابة سهلة جدًا وسريعة على لوحة المفاتيح.

قبل أيام، تعرضت لحادثة سقوط جديدة، واحدة من مئات السقطات التي مررت بها على مدار خمسة وثلاثين عامًا. في تلك السقطات، كان الله دائمًا رحيمًا بي، فلم أتعرض قط لكسر في يدي أو رجلي. ربما لأنني اكتسبت مهارة السقوط بطريقة لا تؤذيني، مثل مهارة السباح الذي يعرف كيف يقفز عن الصخور في الأنهار دون التعرض للخطر.
لكن هذه المرة، لم أسقط بسبب انزلاق أو درج. كنت أحاول الجلوس على كرسي خشبي في العمل، وبينما أتحدث مع الأصدقاء، جلست على طرف الكرسي دون انتباه، فاختل توازني وسقطت. حاولت تفادي أثر السقوط بيدي اليمنى، لكنها تعرضت لإصابة قوية. لم أشعر بألم شديد وقتها، بل حاولت المزاح، متهمًا زميلتي الجميلة ذات العيون الملونة بأنها أصابتني بالعين، وحوّلت الموقف إلى فكاهة. فأنا معتاد على السخرية من ألمي حتى أهزمه. بل وفي بعض الأحيان يصل الأمر بي أن أتنمر من إعاقتي، وهو أسلوب أتبعه لتفادي تنمر الآخرين.
في المساء، أصبح الألم في يدي غير محتمل. قصدت المستشفى القريب من قريتي، وهو مستشفى حكومي صغير يتكون من طابقين، ويعتبر نعمة كبيرة لأهل المنطقة. استقبلني ممرض في قسم الإسعاف بقليل من الاهتمام، ثم طلب مني الانتظار حتى يأتي طبيب العظام المقيم. قادنا الطبيب بنفسه إلى غرفة الأشعة. كان ودوداً كمن وضع يديه على حالة سريرية جديدة يزيد خبرته من خلالها. بعد التشخيص والتصوير، أخبرني الطبيب أنني أعاني من انزياح في عظم المعصم وكسر في عظم الكعبرة، وأني بحاجة إلى رد العظم يدويًا ووضع جبيرة لمدة 21 يومًا.
كان مساءً قاسيًا. عدت إلى المنزل حيث كانت أمي بانتظاري. حجم الجبيرة كان كبيرًا وثقيلًا على يدي النحيفة المعلقة برقبتي. لم يكن الألم هو المشكلة، بل التعب النفسي. بدأت أفكر كيف سأتحمل هذا القيد لمدة ثلاثة أسابيع. عادت بي الأفكار إلى طفولتي، حين كانت أمي تساعدني في كل شيء: الطعام، الاستحمام، ارتداء الملابس… ذكريات ثقيلة لم أرد لها أن تعود. في الأغلب بدت تلك المخاوف واضحة عليّ وأنا أرفض عرض أمي أن تنام في منزلي لمساعدتي. تظاهرت أني أسيطر تماماً على الوضع و أني أستطيع فعل أي شيء ما دام إصبع السبابة الأيسر بخير
في اليوم التالي، استيقظت مبكرًا ولم أشعر بألم كبير. أردت تحدي نفسي، فبدأت الكتابة بيد واحدة. رغم الصعوبة، وجدت طريقة جعلتني أشعر بالراحة، وكأنني بدأت أستعيد سيطرتي على الأمور. ومع ذلك، لم تفارقني الهواجس طوال اليوم.

في اليوم الثالث، قررت مراجعة المستشفى مرة أخرى بوجود أطباء مختصين. وبعد التصوير، تأكدت أن لا كسر في يدي، وأن الطبيب الأول كان مخطئًا. طلبوا إزالة الجبيرة، وكانت فرحتي لا توصف، كمن أزيحت عن صدره صخرة كبيرة. انتهى كابوس كاد يستمر 21 يومًا، وعدت إلى حريتي كعصفور خرج من قفصه.