مياس سلمان
عندما شاهدت فيلم “بياض الثلج والأقزام السبعة” أول مرة وأنا طفل لم يتجاوز عمري السابعة، اعتقدت أن هؤلاء الأقزامَ الطيبين، الذين استضافوا الأميرة في بيتهم وفرحوا بها، كائناتٌ خيالية.
فيما بعد رأيت قصيري القامة الحقيقيين كثيراً في السينما وفي المسلسلات، لكنهم لم يكونوا طيبين في الغالب. إما أنهم كانوا يمثلون أدوار العفاريت أو الجن، أو أنهم كانوا مهرجين يتحركون بطريقة غريبة، كما لو أن مجرد وجودهم أمام الكاميرا يسبب الضحك بشكل تلقائي.
قبل أيام قليلة، لم يكن أحد قد سمع باسم مجد عرنوس الذي وجد نفسه فجأة مشهوراً بعد ظهوره في أحد أشهر مسلسلات رمضان لهذا العام، “أولاد بديعة”، بدور جهاد الملقب بـ (دراعي)، اليد اليمنى لأخيه الفنان محمد حداقي الذي لعب دور (أبو الهول) في تشكيل عصابة تمتهن السرقة والقتل والتهريب.
أما مجد في الحياة الواقعية فهو شاب بسيط من ريف إدلب يقيم في دمشق، ويعمل في محل تجاري بسوق الهال، قادته المصادفة للقاء المخرجة رشا شربتجي التي اختارته للعمل مع ممثلين كبار ومنحته الفرصة ليقدم هذا الدور الذي ترك بصمة خاصة في أحد أكثر المسلسلات متابعة لهذا العام. مع ذلك فمن المنصف القول إن دوره كان نمطياً جداً، بشخصية صامتة لا تشارك في أي حوار، وينفذ كل ما يطلبه منه أخوه دون تفكير، كما كان يتم تصويره بأسلوب كوميدي عندما يعرض محمولاً على الكتف كطفل صغير، ولكن لا أحد ينكر أن حضوره كان قوياً وظل عالقاً في أذهان الجمهور.
في الفترة الأخيرة، حضرتُ أكثر من لقاء مع مجد عرنوس الذي جاءته الشهرة على حين غِرة، فأصبح حديثَ الشارع ومطلوباً للإعلانات، لكن هذه الشهرة هي الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. فحضور مجد على الشاشة لم يفتح نافذة على هذه الفئة المنسية من المجتمع، بل عزز بعض الصور النمطية المرتبطة بها خاصة مصطلح القزم الذي يعتبر توصيفاً دونياً.
والأشخاص من ذوي الإعاقة الإنمائية، هم الأفراد الذين لا يزيد طول ذكورهم البالغين عن مئة وثلاثين سنتمتراً، والمرأة البالغة لا يزيد طولها عن مئة وواحد وعشرين سنتمتراً، وغالباً ما يعود قصر القامة لحالة مرضية ناتجة عن انخفاض نسبة الهرمونات المفرزة من كل من الغدة النخامية والغدة الدرقية، وغالباً ما يرافق هذه المشكلة المرضية بعض الأعراض؛ مثل الشيخوخة المبكرة، والتعب، وفقدان التناسب بين أعضاء الجسم. ورغم وجود قصار القامة في جميع المناطق وبنسب تختلف من بلد إلى آخر، فإن بعض الثقافات ترفضهم، فيتجمعون في مكان واحد، فيصبح هناك قرى بأكملها يعيش فيها هؤلاء الذين نسميهم الأقزام، لكنها تسمية غير مستحبة والصحيح أن نقول قصار القامة. علماً أن القزامة لم تكن تصنف في سورية على أنها نوع من أنواع الإعاقة، ولكن تمت إضافتها في التصنيف الوطني الصادر عام /2017/ .
وربما تكون الشخصية الأشهر على صعيد الدراما السورية من قصار القامة، الممثل طارق الشيخ الذي اشتهر في مسلسل البناء /22/ عام /1990/ الذي أدى به دور البطولة بشخصية ديبو إلى جانب الفنان الراحل عصام سليمان الملقب ببهلول، وقد حقق المسلسل شهرة واسعة في حينه،
ولا يمكن أن ننسى مسلسل قناديل العشاق الذي شكل فيه طارق الشيخ مع الفنان غسان العزب ثنائياً رائعاً بشخصيتي سرحان وفرحان، وهما شخصان من ذوي الإعاقة، فرحان شخص قصير القامة، مقعد، وسرحان شخص مكفوف، كان يعيشان معاً في غرفة واحدة ويرافقان بعضَهما كل الوقت، ففرحان يعتمد على سرحان في الحركة وسرحان يعتمد على فرحان لإرشاده إلى الطريق”
وهذا الدور مستوحى من قصة حقيقية لرجلين في دمشق، وهناك صورة توثق القصة عام /1889/ أي في أواخر القرن التاسع عشر، فالقزم المشلول اسمه سمير وهو مسيحي الديانة والمكفوف اسمه عبد الله وهو مسلم، وكان عبد الله يحمل سميراً الذي لا يستطيع الحركة، والذي يرشده إلى الطريق ليكون بمثابة عينيه، ويقال بعد وفاة عبد الله ظل سمير معتكفاً داخل غرفته لا يخرج منها حزناً على صديقه حتى وافته المنية .
أما على صعيد الدراما العربية فأشهر فيلم تناول حياة قصار القامة بشكل جدي كان فيلم “الأقزام قادمون” عام /1989/ من بطولة يحيى الفخراني وليلى علوي وجميل راتب، ولعب قصار القامة في هذا العمل أدواراً رئيسة، وتم النظر إليهم كأشخاص لديهم حقوق أمام القانون يجب الاعتراف بها وحمايتها.
لكن للأسف، قد تكون هذه النماذج الإيجابية هي الأقل. أما الصورة النمطية التي تم تكريسها في الدراما عن قصار القامة، فهي تُختصر بتقديمهم كمادة هزلية وتهريجية، وأحياناً بأدوار شريرة، كمساعدين للسحرة والمشعوذين ورجال العصابات، فضلاً عن النظرة الدونية والاستخفاف والسخرية، وهذه حقيقة واضحة ترصدها بعض الأعمال المسرحية والسينمائية المحفوظة في الذاكرة، وتبقى المشكلة الكبرى هي النظرة لهم على أرض الواقع والتنمر الذي يواجهونه كل يوم.
ويجب القول إنه يجب النظر إلى الأشخاص قصار القامة كجزء من التنوع البشري الكبير دون أن يكونوا عرضة للتنمر أو باباً للتهريج. فهم أشخاص طبيعيون لديهم مشاكلهم وحياتهم وأحلامهم التي يسعون لتحقيقها مثلهم مثل بقية البشر، خاصة أن العديد منهم يعيش أوضاعاً اجتماعية صعبة سببها ظروف الأمية والبطالة والفقر التي يعانون منها، فضلاً عن النظرة السلبية التي ينظرها البعض إلى هذه الشريحة المنسية من المجتمع.