منصة إرادة- مياس سلمان
أُسدل الستارُ مؤخراً على امتحانات الصفوف الانتقالية للفصل الثاني في سوريا، لتختتم بذلك عاماً دراسياً أقل ما يمكن وصفه بالصعب وغير المستقر، فقد اختبر الطلاب تغييرات عميقة وعاشوا تحديات كبيرة جعلت العملية التعليمية أشبه بالعملية القيصرية. يتجه التركيز الآن نحو التحدي الأكبر: امتحانات الشهادات، بدءاً بالصف التاسع والثانوية الصناعية والمهنية، ومن ثم امتحانات الصف الثالث الثانوي بفرعيه العلمي والأدبي، والتي من المقرر أن تستمر حتى نهاية شهر تموز.
لقد اتسم العام الدراسي 2024-2025 بتوازن هش وصعوبات متعددة الأوجه، لم تكن مجرد منغصات عابرة، بل كانت انعكاساً مباشراً لآثار الصراع السياسي والانهيار الاقتصادي الذي تعيشه البلاد. لتكون أزمة التعليم في سوريا عرضاً لأزمة مجتمعية أعمق وأكثر شمولاً.
البكالوريا: تحولات السياسة وواقع الطلاب
قراراتٌ عدة ستؤثر على امتحانات الثانوية هذا العام، مثل إلغاء مادة التربية الوطنية من الامتحانات ومن المعدل بطبيعة الحال، إضافة لقرار إلغاء الدورة التكميلية (أو الدورة الثانية) التي كانت فرصة حاسمة للعديد من الطلاب لتحسين علاماتهم أو تعويض رسوبهم في مادة واحدة. يقول مفيد حورانية، هو مدرس فيزياء في دمشق إن هذا الإلغاء يضع عبئاً نفسياً وعملياً كبيراً على الطلاب في بلد يمر بأزمة وهو يعني أن “إمكانية التعويض أصبحت مستحيلة” بالنسبة للطلاب، مما يزيد بشكل كبير من الضغط على الجلسة الامتحانية الواحدة، خاصة للطلاب الذين يواجهون بالفعل ضغوطاً هائلة من عدم الاستقرار الأمني والاقتصادي.
إلا أن القرار الأكثر تأثيراً على الطلاب سيكون بالتأكيد تغيير نظام الامتحانات إلى الأتمتة، فقد أصبحت تسع من مواد امتحانات الثانوية العامة (للفرعين العلمي والأدبي) “مؤتمتة” (اختيار من متعدد)، وهو أمر جديد وغير مألوف يطبق لأول مرة هذا العام.
وفيما التحول إلى الامتحانات المؤتمتة قد يزيد من الكفاءة ويقلل من الذاتية في التصحيح، إلا أن الآراء المتضاربة بين المعلمين تكشف عن نقاش أعمق حول أساليب التدريس. ميساء (مدرسة مادة الرياضيات) ترى أن نظام الأتمتة ليس في مصلحة الطالب المتفوق، حيث يأتي أربعون سؤالاً لمدة ساعتين ونصف، وقد لا يسعف الوقت البعض لإنجاز جميع الأسئلة. وتضيف إن الطالب في الامتحان التحريري كان يحصل على علامة لكل خطوة يجريها، أما الأتمتة فتهتم بالوصول إلى النتيجة الصحيحة فقط. وترى أنها قد تكون جيدة للطالب المتوسط وما دونه الذي يعتمد على الحظ والنقل لكي ينجح.
بدوره سالم (مدرس اللغة الإنكليزية) يرى أن الأتمتة عامل مساعد للطالب المتفوق، حيث تجعل أي شيء في القواعد والكتاب مهماً، وللأسف اعتاد الطلاب على الذهاب لمدرسين يتوقعون الأسئلة، وهذا الأمر غير ممكن بنظام الأتمتة، لذلك يجب أن يكون الطالب بارعاً في القواعد والترجمة فلا يجد أي صعوبة.
تغيرت آلية النجاح أيضاً. ففي العام الماضي، كان الطالب يرسب بمجرد الرسوب في مادة واحدة مهما كانت. أما في النظام الحالي، فاللغة العربية هي المادة الوحيدة التي يمكن أن تؤدي إلى الرسوب بمفردها. وفي بقية المواد، ينجح الطالب إذا رسب في مادتين وكان مجموع علامات المادتين يساوي ربع العلامة الكلية. أما إذا رسب الطالب في أكثر من مادتين، فيعتبر راسباً.
تبدو معايير النجاح المعدلة أكثر تساهلاً في السماح للطلاب بالنجاح مع رسوب في مواد متعددة لكنها تقدم آلية تعويض معقدة. وربما يكون الهدف غير المعلن زيادة معدلات النجاح الإجمالية.
في كل الأحوال، ما زال “كابوس البكالوريا” الثابت الذي لا يتغير، فالشهادة الثانوية في سوريا تُعتبر “تقرير مصير” يتوقف عليه مستقبل عشرات الآلاف من الطلاب، وهي بوابة أساسية للتعليم الجامعي وفرص العمل الأفضل.
مشهد الامتحانات: أرقام، لوجستيات، وتوسع جغرافي
تستعد وزارة التربية السورية لإجراء امتحانات الشهادات العامة لدورة عام 2025 لعدد إجمالي من الطلاب يبلغ ثلاثة أرباع مليون طالباً وطالبة، يتقدمون لمختلف الفروع التعليمية.
الشهادة | العدد الإجمالي للطلاب |
التعليم الأساسي | 359,282 |
التعليم الشرعي | 10,502 |
الثانوية المهنية | 24,666 |
الثانوية العلمية | 212,217 |
الثانوية الأدبية | 115,397 |
الثانوية الشرعية | 2,152 |
المجموع الكلي | 724,216 |
في الأسبوع الماضي، شهدت مواعيد الامتحانات الرسمية لشهادة التاسع والبكالوريا تأجيلاً جديداً بعد أن سبق ذلك تعديلات في المواعيد، وبحسب البرامج المعدلة الجديدة فسيستمر تقديم الامتحانات حتى الرابع من آب، ما يشير إلى التحديات اللوجستية والإدارية التي واجهتها الحكومة الانتقالية الجديدة. وللمرة الأولى منذ بداية الأزمة، ستُجرى الامتحانات في جميع المحافظات السورية، بما في ذلك إدلب وريف حلب الغربي. ورغم الأهمية الرمزية لإعادة هذه المناطق إلى مظلة الامتحانات المركزية، فإن الواقع التعليمي على الأرض لا يزال يواجه تحديات هائلة. تشير التقارير إلى تفشي ظاهرة التسرب المدرسي بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة، ونقص حاد في المنشآت التعليمية، خاصة في مخيمات النازحين. ربما يكون توحيد الامتحانات خطوة أولى، لكن تحقيق تكافؤ الفرص التعليمية وجودة نوعية التعليم يتطلب استثمارات ضخمة تتجاوز مجرد الإجراءات الإدارية.
فاطمة العائدة من مخيم الركبان في جنوب تركيا إلى بيتها المدمر في الحجر الأسود، لن يتاح لها تقديم امتحان التاسع هذا العام، وستحاول تقديمه السنة القادمة، تقول أمها “لقد كان قرار العودة ضرورياً لكن كل شيء يبدو متوقفاً الآن، ضاع العام الدراسي وأمرنا لله لكن لا نعرف أين ستكون مدرسة أولادنا العام المقبل”، بدوره، يقول مراد وهو أب لطالب في الحسكة: لسنا متأكدين حتى الآن من قرارنا تقديم البكالوريا حرة مع وزارة تربية دمشق كحل أفضل من تقديمها مع الإدارة الذاتية غير المعترف بشهادتها، لكن ليس أمام سكان المنطقة الشرقية كثير من الحلول. واتفقت الأسبوع الماضي وزارة التربية والتعليم في الحكومة الانتقالية السورية وهيئة التربية والتعليم في الإدارة الذاتية، على تسجيل الطلبة المقيمين في مناطق شمال شرق سوريا ليتقدموا للامتحانات في خمسة مراكز وفق المناهج المعتمدة في دمشق.
بلغ عدد المدارس في سوريا 19426 مدرسة منها 7849 خارج الخدمة، حيث تشكل المدارس الخارجة عن الخدمة 40% من نسبة المدارس. ويبلغ عدد الطلاب ما دون التعليم الجامعي، 4.2 مليون طالب، بينما يوجد 2.4 مليون خارج المنظومة التعليمية، سواء في المخيمات أو من الطلاب المتسربين.
ربيع، وهو طالب في الصف الثالث الثانوي الفرع العلمي، يقول إن التحضير لم يجرِ على ما يرام، فما حصل في مدينته (السويداء) من أحداث جعل الذهن مشوشاً، كما مروا بفترة إحباط وهم يرون الطلاب الجامعيين من السويداء لا يذهبون لجامعتهم. ويضيف أن الضيق المادي منعه من الاعتماد على الدروس الخصوصية بشكل كافٍ. ورغم كل هذه العوامل غير المشجعة، يؤكد أنه سيحاول التقديم، وإن لم يوفق، سينسحب وينتظر العام القادم عسى أن تكون الأمور أفضل.
السيدة منتهى أم الطالبة سيدره من اللاذقية تقول: ابنتي في الصف التاسع لم يكن التحضير كما يرام لظروف أمنية وكثيراً من الأيام لم تحضر ابنتي الدروس وتضيف سأرافق ابنتي كل يوم إلى مكان الامتحان وسأنتظرها بفارغ الصبر ليس كما كنت أفعل مع أخيها الذي كنت أخاف ألا يقدم بشكل جيد، بل خوفاً عليها من التعرض لأي مكروه أثناء ذهابها للامتحان وعودتها للمنزل.
من الواضح أن الضغط المجتمعي الهائل المرتبط بالبكالوريا،”المقررة للمصير” بالإضافة إلى إلغاء الدورة التكميلية وعدم الاستقرار الاقتصادي والأمني، يخلق بيئة من التوتر الشديد للطلاب، مما يضخم مشاعر اليأس وانعدام السيطرة، لا سيما أولئك الذين ينتمون إلى خلفيات محرومة
فجوة الوصول: الطلاب ذوو الإعاقة
يواجه الطلاب ذوو الإعاقة تحديات خاصة في العملية الامتحانية. فوفقاً للإجراءات المتبعة، يتم تشكيل مركز اكتتاب في مركز كل محافظة يتقدم بها الأشخاص ذوو الإعاقة للامتحانات، خاصة من لا يستطيعون الكتابة بأيديهم بعد عرضهم على لجنة مختصة من مديرية التربية. ورغم أن هذا الإجراء يهدف إلى توفير التسهيلات، إلا أنه يشكل عبئاً كبيراً على الأشخاص ذوي الإعاقة الذين يسكنون الأرياف والمناطق البعيدة عن مركز المحافظة، مما يتسبب لهم في إرباك وأعباء مادية ناجمة عن المواصلات للذهاب إلى المركز الامتحاني المخصص لهم.
تجسد قصة آدم، وهو شاب يعاني من شلل نصفي سفلي ويستخدم كرسياً متحركاً من مدينة بانياس، هذه المعاناة. فقد كانت فرحته عارمة عندما وافقت اللجنة على أن يقدم امتحانه في أقرب مركز امتحاني لسكنه ومع أصدقائه، لتعفيه من الشروط الموضوعة على ذوي الإعاقة بتقديم امتحاناتهم في مراكز محددة. يقول آدم، المتفوق في صفه، أنه ربما لن يكون المركز مجهزاً وسيحتاج للمساعدة للوصول إلى القاعة، لكن وجوده بين أصدقائه أمر مهم جداً من حيث المعنويات والثقة، وأفضل بكثير من عناء الذهاب أربعين كيلومتراً، وهي المسافة التي تفصل بين بانياس وطرطوس، لأجل تقديم الامتحانات وتحمل عبء مادي يفوق طاقة أهلي.
فالاعتماد على المراكز المركزية للامتحان، يخلق حواجز (مالية ولوجستية ونفسية) تزيد من تفاقم الصعوبات التي يواجهها الأشخاص ذوو الإعاقة. إن تحقيق الشمولية الحقيقية يتطلب خدمات لامركزية، وفهماً أعمق للاحتياجات المتنوعة للطلاب ذوي الإعاقة، بدلاً من نموذج مركزي واحد يناسب الجميع.
في النهاية، تُجسد فترة الامتحانات لعام 2025 في سوريا صورة بلاد تتصارع مع الإرث العميق للصراع العنيف الذي استمر أكثر من عقد، إضافة إلى تعقيدات التحول السياسي الجديد، والانقسام المجتمعي غير الخافي على أحد، وكل ذلك يضيف طبقات من الضغط وعدم اليقين لطلاب يواجهون بالفعل تحديات شخصية ومجتمعية هائلة.