مياس سلمان
انتشرت منذ فترة صورة على وسائل التواصل الاجتماعي أثارت ضجة كبيرة. كانت لرجل يضع لافتةً مكتوباً عليها (خطاب الجديدة) على مدخل قرية (أرزة). لم يكن مجرد تبديل للاسم، بل ربما، تبادل للأدوار. هذه الصورة، أعادت فتح جراح، لم تشف أصلاً، وكتبت فصولًا جديدة من قصص الحرب التي تأبى أن تنتهي.
قصة ضِيَع حماة الشرقية مثال عن صعوبة تفكيك الطبقات المتعددة لأحداث الحرب، وتذكير بضرورة ألا تُروى حكايات الألم السورية بصوتٍ واحد فقط.؟
الجيران على طرفي الجبهة
(أرزة، وخطاب) قريتان متجاورتان في ريف حماة، الأولى كان يسكنها سكان من الطائفة العلوية، أما سكان خطاب فكانوا من الطائفة السنية. وسكان ريف حماة وسهل الغاب يغلب عليهم الطابع العشائري في جميع الطوائف الموجودة فيهم، طريقة اللباس نفسها، العادات والقيم وحتى اللهجة نفسها، بحيث لا تستطيع أن تميز بينهم تقريباً. لكن الحرب التي استمرت أربعة عشر عامًا غيرت كل شيء، مخلفة وراءها قتلًا ودمارًا وتهجيرًا طال جميع القرى.
كان ريف حماة الشرقي وسهل الغاب لسنوات خط تماس مشتعلاً بين قوات النظام السابق وفصائل المعارضة، وقد انحاز قسم لا بأس به من أبناء القرى إلى طرف أو آخر. شهدت سنوات الحرب تهجيرًا واسعًا للقرى ذات الأغلبية السنية مثل اللطامنة وكفرزيتا وكفر نبودة ومورك وقلعة المضيق وطيبة الإمام، حيث يقدر عدد النازحين من تلك المنطقة بخمسين ألف شخص، بدؤوا بالعودة تدريجياً إلى بيوتهم المدمرة خلال الأشهر السابقة.
مع سقوط النظام في كانون الأول 2024، انقلبت الأوضاع رأسًا على عقب. القرى العلوية أصبحت خالية بعد أن غادرها أهلها هاربين قبل أيام قليلة من وصول قوات المعارضة أثناء معركة التحرير.
يقارب عدد هذه القرى العشرين، من بينها معان والطليسية والشيحة والعزيزية والفانات ومريود والشيخ علي كاسوح. هذه القرى، التي قال كثيرون إنها تعرضت للتهجير القسري، كانت في الحقيقة شبه خالية عند وصول قوات الفصائل إليها. تشير المصادر إلى أن حوالي عشرة آلاف نسمة من سكان هذه القرى نزحوا بعد سقوط النظام إلى أرياف سلمية ومصياف وطرطوس وحمص، حيث يقيم البعض عند أقارب لهم، بينما استأجر آخرون مساكن، ولا يزال قسم منهم مشردًا يقيم في مبرات التعزية أو عند المزارات في القرى الآمنة، ويعيش أغلبهم ظروفًا اقتصادية ومعيشية صعبة.
ورغم أن اتهامات التهجير الممنهج، غير دقيقة، إلا أن هذا الهروب الجماعي من هذه الضيع بالذات، هو انعكاس مباشر لأحداث ماضية. وربما يُعزى لعدة أسباب رئيسية، الأول هو أحداث عام 2014 عندما شهدت المنطقة تقدماً لقوات المعارضة، رافقه نزوح جماعي من الضيع العلوية، وسقوط عدد من القتلى من أبنائها، خاصة بمجزرة معان. السبب الثاني، أن عودة أهالي هذه الضيع عام 2018، بحماية الجيش السوري إلى بيوتهم، شهد انضمام عدد من شبابهم سواء للقوات النظامية أو قوات الدفاع الشعبي في المنطقة، وبالتالي خاف الأهالي من الانتقام لأن عدداً من المجازر ارتكبت ضد أهالي القرى المعارِضة. السبب الثالث، أن النظام قام باستثمار أراضي القرى التي تم تهجير سكانها إلى إدلب وتركيا، وطرحها في مزادات علنية، وكان عدد كبير من المزارعين العاملين في هذه الأراضي “المستولى عليها” من سكان الضيع المصنفة “موالية”، فيما كان المستثمرون الفعليون رجال أعمال وضباطاً مقربين من النظام، أما السبب الأخير، هو عدة حوادث عنف وقتل أكبرها في قرية أرزة للسكان الذين لم يهجروا بيوتهم أو الذين عادوا لتفقد أوضاع أراضيهم.
شهادات غير كاملة:
تروي رغداء، وهي أم لثلاثة أطفال تعيش في غرفة صغيرة وتعمل في مزرعة في ريف الشيخ بدر، قصتها. رغداء، التي تنحدر من قرية الطليسية قتل زوجها في إحدى المعارك عام 2014، تقول: “حالي حال الكثيرين، تهجرنا من القرية عام 2014 وحرقت منازلنا، ثم عدنا إليها عام 2018 ورممنا المنازل، وقبل سقوط النظام بأيام هربنا مرة أخرى، ثم علمنا أن منازلنا حرقت، ولا نعلم إن كنا سنعود إلى أرضنا مجددًا أم لا”.
أما أبو أحمد من قرية معان، فيتحدث بصراحة عن تعقيد الأوضاع: “الأمر معقد جدًا، فالمنطقة ذات طابع عشائري، وغالبية القرى حولنا من الطائفة السنية الذين تهجروا من بيوتهم وهدمت منازلهم من قبل النظام السابق”. ويضيف أبو أحمد: “المشكلة أن النظام السابق كان يقوم بمناقصات معلنة لاستثمار الفستق الحلبي والأراضي تسمى (عقود استثمار أملاك الغائبين)، دون أن يحصل صاحب الأرض المهجر على أي مردود”، وينقل أبو أحمد ما يصلهم من العائدين اليوم إلى بيوتهم من غضب وتهديد خاصة مطالبة بعضهم المعاملة بالمثل تعويضاً على السنوات السابقة، وأنه يحق لهم السيطرة الآن على مواسم القرى العلوية، ويضيف “إن أغلب المستثمرين السابقين لأراضي القرى المهجرة كانوا يستخدمون أبناء هذه القرى كعمال لجني تلك المواسم”.
بينما يروي العم أبو طلال من قرية الشيحة جانباً آخر فيقول: “إن أبناء قريته غادروا جميعًا القرية ليلة سقوط النظام، وبعدها تم حرق البيوت، وقام البدو بنصب خيام في القرية والاستيلاء على الأراضي. نتواصل مع البعض منهم التي تربطنا بهم علاقات طيبة ونوصيهم بالمحافظة على أشجار الزيتون والفستق الحلبي، ومحاولة حمايتها من القطع لأنها تحتاج عشرات السنين لتثمر من جديد على أمل العودة القريبة إليها”. ويكشف أبو طلال عن وجود “وساطات محلية عبر قنوات مختلفة للتمهيد لعودة الناس إلى بيوتهم، وقد توافق بعض وجهاء قرى العلويين النازحين عن المنطقة على تكليف الأمير أبو معتز (مهرب الشايش)، وهو أحد وجهاء عشيرة الموالي المقيمة في المنطقة، للتوسط مع أبناء عشيرته ومع ممثلي الحكومة وقادة الميلشيات المسلحة لإيجاد حل يضمن عودة الأهالي إلى قراهم، ولكن لم تسفر هذه الوساطة عن شيء حتى الآن”.
في قرية جب حسن التابعة لريف السلمية، يقدم العم أبو حسن نموذجًا مختلفًا: “نحن قرية مختلطة، نصفها من الطائفة العلوية ونصفها من الطائفة السنية، مرت سنوات الحرب دون أن تحدث بيننا مشاكل تذكر، ومع سقوط النظام تكفل زعيم العشيرة بحمايتنا، فبقينا في أرضنا وبيوتنا، غادر القليل بدافع الخوف، ولكن من بقي لم يتعرض له أحد، يعيش في منزله ويعمل في أرضه”. ويضيف أبو حسن: “أغلب القرى التي تهجرت كان فيها ثارات شخصية وقبلية أكبر من قدرة قوات الدولة الحالية على حلها”.
الأزمة الإنسانية وتحديات العودة:
يواجه النازحون من منطقة حماة وضعًا إنسانيًا صعبًا، حيث يحتاجون إلى المأوى، والغذاء، والرعاية الصحية، والسلامة. وتزداد هذه المعاناة بسبب الخوف من التمييز أو الانتقام، ما قد يعيق وصول المساعدات إليهم.
كما أن إعادة بناء الثقة بين المجتمعات العلوية والسنية في منطقة حماة، التي تضررت بشدة جراء سنوات الصراع، يمثل تحديًا كبيرًا للحكومة وللمجتمع المدني على حد سواء. فالعودة الآمنة والطوعية للنازحين تتطلب معالجة شاملة لجذور الصراع، وضمان المساءلة عن الانتهاكات، وحماية حقوق الملكية، وتعزيز المصالحة الوطنية.
وعلى الأغلب فإن أعمال العنف التي شهدتها منطقة الساحل، كانت من أسباب استمرار هذا النزوح وتعقد شروط الوساطة، إضافة إلى تهديدات تصل لسكان المنطقة أن لا يحاولوا العودة. كما أن سياسات النظام السابق المتعلقة بأملاك الغائبين، وخاصة القانون رقم 10، خلقت مظالم كبيرة لسكان الضيع السنية، وهو الأمر الذي يحتاج تفعيل مسارات العدالة لإعادة الحق لأصحابه وتعويضهم، ولا يمكن ترك الأمور لتتم بصيغ عقاب جماعية وبدائية.
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل يمكن لهذه القرى أن تعود للعيش جنبًا إلى جنب بسلام؟ ويعود كل مهجر إلى أرضه؟ يبقى الأمل معلقًا على إمكانية إجراء مصالحة وطنية وقانونية شاملة، يتم بها طي صفحة الماضي والتخلص من عبء ثقيل أورثته سنوات طويلة من الحرب.