الإرادة

العنف الرقمي: استباحة الجسد سياسياً من وراء الشاشات

منصة إرادة: خليل سرحيل

“عاهرة وزنديقة، كافرة ومرتدة، متخلفة، ثدي، دورة شهرية، أم للكفار، وسبية، نظرتها عورة وصوتها أيضًا”. كل يوم نقرأ على وسائل التواصل جملاً، ونشاهد فيديوهات محملة بالعنف والتحرش تجاه النساء. أي نساء؟ لا يهم.. المهم ليسوا نساء “قبيلتنا”.

هذه العبارات ليست مجرد شتائم عابرة، بل هي انعكاس لمنظومة فكرية تسعى إلى تَشْييء المرأة وتهميشها، تخويفها وترهيبها حتى تعد للمليون قبل أن تتجرأ على التعبير عن رأيها أو التواجد في المجال العام. لا يهم إن كانت المرأة فلاحة، مربية، طبيبة أو مهندسة أو حتى عالمة في الذرة. الأنوثة تهمة في حد ذاتها. الغريم السياسي الرجل يتم مناقشة أفكاره، أما إذا كانت امرأة فيتم مناقشة جسدها. للأسف، لا يبدو اليوم في سوريا، أي طرف سياسي أو مناطقي أو طائفي، بريء من استخدام “شرف المرأة” في مناظراته الأيديولوجية، ليس لإثبات صحة موقفه، بل لمهاجمة الطرف الآخر والتقليل من جدارته. حتى إذا أراد رجل مهاجمة رجل آخر “من تحت الحزام” فسيهاجم أمه وأخواته وبناته ونساء داره.

لم يعد التحرش والإساءة الجنسية الموجهة ضد النساء مجرد حوادث فردية في الفضاء الأزرق السوري، بل أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الصراع السياسي، خاصة في العالم الموازي، حيث الاختباء وراء الشاشات ووراء الأسماء الوهمية يمنح مساحة لا لحرية التعبير فقط، بل أيضاً للتجرد من كل أقنعة الأخلاق والأدب. 

وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل، الوزيرة المعنية بحقوق المرأة، هند قبوات، لم تسلم من حملة الكراهية التي استهدفتها بعد أن وجد المتصيدون أن كلمة قالتها في لحظة انفعال، تتشابه مع لفظ قطعة ثياب نسائية، لتتحول إلى “مادة سخرية ذكورية محورها الجنس”، متجاهلين كونها وزيرة وأم وجدة أيضاً.

ما حدث أيضاً مع الممثلة السورية لمى بدور يعدّ مثالًا على كيفية إهانة النساء في الفضاء الرقمي على مرأى ومسمع الجميع. فبعد أن شاركت في مظاهرة مطالبة بدولة مدنية، امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بصور مزيفة تتهمها أنها “شبيحة” وتصاعدت الحملة لفيديوهات وميمات مملوءة بالتلميحات الجنسية، تسخر من شرفها وجسدها. هذا الاستهداف الممنهج يُظهر كيف تُستخدم صورة المرأة وسلوكها كساحة لمعارك سياسية، حيث يصبح جسدها وشرفها أدواتٍ للضغط وتصفية الحسابات.

كذلك، تعرضت السيدة غادة الشعراني التي تحدثت بغضب مع محافظ السويداء لحملة سخرية واستهزاء واتهامات، تصب جميعها في كونها “مرة” لم يكن الهدف مناقشة آرائها أو دحض حججها أو معارضة أفكارها، بل كان لتشويهها وتعنيفها. ففي سياق سياسي مشحون، يمكن لأي هفوة أن تُستغل لإسكات الطرف الآخر، خاصة إذا كانت الضحية امرأة.

تُستخدم الهجمات الرقمية كأداة لترهيب الناشطات والسياسيات والإعلاميات، أحياناً تتركز الهجمات ضد اللواتي يتبنين آراءً مخالفة للخطاب السائد خاصة الديني، لكن في أحيان كثيرة، مجرد كونك امرأة محسوبة على الطرف “الضد” سياسياً، يكفي لتحويلك إلى قطعة من اللحم العاري في ظل تواطؤ مجتمعي غريب.

السيدة لمى حاج قدور، سيدة منقبة تعمل في تفكيك الألغام التي زرعها نظام الأسد. ورغم المخاطر الجسيمة التي تواجهها، لم يَرُقْ عملُها لبعض الرجال الذين أطلقوا تعليقاتٍ مسيئة عن لباسها وعملها، ونصحوها بالبحث عن “الخبيزة والكمأة” بدلاً من تفكيك الألغام، مؤكدين أن مكانها “المطبخ”، وأن العمل الحقيقي “للرجال”. البعض هاجم النقاب معتبراً أن قصتها عبارة عن كذبة لأنه لا يمكن أن تستطيع امرأة منقبة “التفكير” و”العمل”. ومرة أخرى تم تحويل خطاب الكراهية ضد النساء كأداة لتعزيز الانقسامات الطائفية أو المناطقية، حيث يصبح “الآخر المختلف” أدنى أو أقل إنسانية بطريقة ما.

ما يزيد من خطورة خطاب الكراهية هو أنه لم يعد صادرًا عن أفراد عاديين فقط، بل أصبح يخرج من أشخاص مسؤولين وفي مواقع إعلامية. الإعلامي أحمد العقدة، الذي قام بشتم وقذف الناشطة جود الحمادي وأرسل لها “جيشًا من المعلقين” محملين بالشتائم الجنسية، هو مثال على هذا التدهور. ورغم اعتذاره “على مضض”، فإن تأثير هذه الحملات على النساء كافة يظل عميقًا، فمن المؤكد أن كثيراً من النساء، سيترددن قبل أن يشاركن آراءهن في الفضاء العام أو يتجرأن على لعب أدوار سياسية لأنهن يعرفن جيداً أن الضريبة ستكون تشويه السمعة واستباحة الجسد.

لا يقتصر العنف على الفضاء الرقمي، بل يتجاوزه إلى الواقع المادي، حيث تُرتكب “جرائم الشرف” المروعة. قبل شهرين قُتلت فتاتان في ريف حلب على يد أفراد من عائلتيهما، بعد أن تحررتا من الخطف. لم تحتفل العائلات بعودتهما، بل تم قتلهما “بذريعة حماية الشرف”. ما يزيد من فداحة هذه الجرائم هو تبريرها مجتمعيًا، حيث انتشرت فيديوهات القتلة مع تعليقات تبارك فعلتهم وتشد على أيديهم، بدعوى أنهم “عملوا كما تقول العادات والتقاليد ولم يتبعوا المنطق”. هذا التبرير يسلط الضوء على هشاشة مفهوم “الشرف” في بعض المجتمعات، وكيف يمكن أن يُستخدم كغطاء لارتكاب جرائم لا إنسانية.

هذا الخطاب، الذي يتخذ من “الشرف” و”العادات والتقاليد” و”العيب والحرام” ذريعة، ليقوض “إنسانية” المرأة، هدفه الأول هو السيطرة على عقل المرأة قبل جسدها، لكنه أيضاً، يبدو محاولة استباقية لإضعاف أو منع أي تمثيل نسائي قد يُحدث تغييرًا في المشهد السياسي أو الاجتماعي.

في ظل هذا الواقع، تزداد الحاجة إلى قوانين رادعة لحماية النساء ومواجهة خطاب الكراهية. حتى اليوم، لم تصدر دراساتٌ أو قوانين جديدة تضع سوريا على قدم المساواة مع الدول الحضارية في مجال حقوق المرأة. تقع المسؤولية الكبرى هنا على عاتق الحكومة، التي تُعد الجهة المعنية بمواجهة خطاب الكراهية، ليس فقط تجاه النساء، بل تجاه جميع مكونات الشعب السوري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *