الإرادة

السلطة القضائية: تعطيل ثم عودة خجولة

مياس سلمان

يجدر بقضية مرح قسوات التي انتشرت الأسبوع الماضي كترند على مواقع التواصل الاجتماعي، أن تشكل دراسة حالة معمّقة لآليات انتشار خطاب الكراهية في سوريا، وكيف يمكن لكرة ثلج من الأكاذيب أن تتراكم على واقعة صغيرة غير واضحة المعالم، لتصل إلى درجة أن لا أحد يكترث بالواقعة الحقيقية، حتى لو أطاحت هذه الكرة في طريقها ليس فقط بالقصة الأصلية، بل بكثير من المُسلّمات والقيم.

انتشر فيديو لمرح عبر مواقع التواصل الاجتماعي تتهم فيه الأمن العام بمهاجمة عائلتها ومحاولة إخراجهم من بيتهم في المزة الغربية بالقوة. انتشر المقطع بسرعة كبيرة ونتيجة عدم وضوح التفاصيل، تم تداول أن هذه العائلة “علوية” ويتم إخراجها لمنح البيت لشيخ من هيئة الشام. دارت الكرة حول المقطع في وسائل التواصل الاجتماعي، لتخرج سردية جديدة، بأن هذه العائلة “سُنّية” وقد استولت على البيت بمساعدة ضباط ورجال أعمال محسوبين على النظام السابق، والأمن يقوم بإرجاع البيت إلى صاحبه العلوي الذي كان خارج البلاد. مع كثير من الشتائم والاتهامات والتهويل، اضطرت مرح قسوات لتسجيل مقطع تشرح فيه ما حدث، ليتبيّن أن كل ما سبق هو وجبة دسمة من الكراهية لقاطني العالم الأزرق، وأن القصة هي امتداد لنزاع قضائي قديم حول ملكية المنزل، وتنفيذ لحكم إخلاء لم تستطع وقفه نتيجة تعثّر النظام القضائي بعد سقوط النظام وعدم عودته للعمل حتى الآن.

وفي حين أنه لا يمكن أن نعرف من هو الجاني ومن هو الضحية في قضية مرح، لكنها وكآلاف القضايا المرفوعة أمام المحاكم السورية، تحتاج قضاءً نزيهاً وعادلاً للبت فيها، وليس أروقة وسائل التواصل الاجتماعي.

هذه القضية تفتح سؤالًا أكثر إلحاحًا عن واقع المحاكم السورية اليوم، وماذا يحدث فيها، لأن أي قضية مُرشّحة وبقوة أن تصبح ترندًا جديدًا وخطاب كراهية جديدًا إذا لم يتم علاجها حيث تنتمي، تحت القبة القضائية.

السلطة القضائية: إعادة هيكلة أم وصاية سياسية جديدة

بعد سقوط النظام في نهاية العام الماضي، توقفت المحاكمات ما يقارب الشهرين بشكل كامل ثم بدأت العودة للعمل بشكل تدريجي، حيث صدر قرار وزير العدل في بداية شهر شباط الماضي لمتابعة قيد الدعاوى والنظر فيها. لكن حتى الآن، يعيش القضاء السوري حالة من التعطيل، وهناك كثير من الخدمات القضائية المتوقفة تماماً، حتى أن القصر العدلي في بعض المحافظات ما زال مغلقاً كالقنيطرة، فيما المحاكم تغصّ بآلاف القضايا المُعلّقة منذ عدة أشهر وعشرات الآلاف من القضايا التي ينتظر الناس، خاصة ضحايا الحرب، رفعها أو الطعن بأحكام سابقة.
وحسب المحامي أحمد بركة، فإن المعاملات القانونية غير المتاحة الآن في المحاكم المدنية تشمل الفراغ المباشر ونقل ملكية العقارات والسيارات بشكل مباشر، الوكالات العدلية العامة والخاصة غير القابلة للعزل، تثبيت الواقعات الشخصية كالزواج، الطلاق، إثبات النسب، وكذلك إصدار الهويات الشخصية مثل بدل ضائع أو ورقة “غير محكوم”. وحتى أن تسجيل الولادات والوفيات في السجلات المدنية متوقف منذ أربعة أشهر.
وابتداءً من بداية هذا الشهر، عادت بعض الخدمات القضائية المدنية بشكل خجول مثل تسجيل دعاوى الزواج والطلاق وحصر الإرث وإقامة الدعاوى الشرعية مثل النفقة، المخالعة، الحضانة، وتسجيل عقود الإيجار، وتسجيل دعاوى مدنية مثل بيع العقارات والسيارات وغيرها، دون إمكانية إتمام عملية نقلها وتسجيلها بشكل قانوني باسم مالكها الجديد.
يقول المحامي ريان عمران: “قبل شهرين صدر تعميم يسمح بتسجيل وقائع الزواج بالمحاكم، لكن هذا الإجراء غير كافٍ. فدوائر النفوس حتى نهاية شهر شباط كانت لا تزال متوقفة عن العمل، فلا يمكن تسجيل وقائع الزواج أو الولادة أو الوفاة منذ تاريخ 8/12/2024، والبعض يعتبر أن تسجيل الزواج في المحكمة غير كافٍ بما أنه لا يستطيع المتزوجون تسجيل الزواج مدنيًا في دوائر النفوس التابعة لوزارة الداخلية”.
وأدى توقّف بعض المديريات الحكومية عن العمل في شهري كانون الأول والثاني الماضيين، مثل مديريات المالية، ومديريات النقل، ومديريات المصالح العقارية، ومديريات النفوس، إلى استحالة تسجيل بعض الدعاوى التي تحتاج إلى بيانات رسمية من هذه الجهات. ولعل القضايا العقارية كقضية مرح قسوات وقضية جمعية مدد في دمشق القديمة، هي أكثر القضايا المتراكمة والشائكة على مدار سنوات الحرب، فقد تم بالفعل الاستيلاء على كثير من البيوت، أو إجراء عمليات إخلاء غير قانونية، أو عدم القدرة على توزيع الإرث بسبب سفر أو تغييب أو اعتقال.
يوضح المحامي نبهان شحود أن البت في هذه القضايا لا يزال بعيدًا، فقد صدر مثلاً تعميم بإمكانية توثيق عقود البيوع العقارية في المحاكم عن طريق محامٍ، ويستطيع المحامي الآن وضع إشارة على صحيفة العقار، ولكن لا يستطيع نقل ملكية العقار للمشتري بسبب توقف الدوائر العقارية عن توثيق عقود نقل الملكية. وبالتالي، أصبح هذا الإجراء بابًا للعمل للمحامين على حساب أصحاب المكاتب العقارية الذين لا يستطيعون القيام بعملية نقل الملكية والبيع والشراء حاليًا بسبب تعاميم الدوائر العقارية.
وحسب رأي العديد من المحامين، فإن المرافعات ما تزال خجولة وقليلة مقارنة بالسابق لأسباب كثيرة، وحال المحامين المادية سيئة للغاية نتيجة توقف العمل وعدم وجود موارد بديلة، حيث إن قانون مزاولة مهنة المحاماة يحظر على المحامي الجمع بين المحاماة ومهنة أخرى.

طالبت وزارة الداخلية جميع الضباط بالتوجه إلى فروع القوى البشرية لإجراء المقابلات اللازمة لهم قبل إعادتهم لعملهم.

ولعل منطقة الألغام في القضاء السوري اليوم هي المحاكمات الجزائية التي تختص بقضايا القتل، السرقة، المخدرات والاغتصاب. وتبدأ العقبة الأولى في عملية تقديم الشكاوى في أقسام الشرطة، التي عليها تنظيم الضبوط وتبليغ المذكرات الصادرة عن المحاكم.
ويشكو المحامون والقضاة أن الضبوط يجري تنظيمها وكتابتها بطريقة غير منظمة نظراً لعدم وجود الخبرة لدى كثير من عناصر الأمن العام الذين تم تعيينهم في المخافر دون تدريبهم، وخاصة بعد الاستغناء عن كثير من عناصر الشرطة السابقين.
كما أن القضاء الجزائي يعمل عبر قانونين مختلفين في اللحظة الحالية. فهناك قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 12 لعام 1950، أما المناطق التي كانت تسيطر عليها هيئة تحرير الشام قبل سقوط النظام، أي محافظة إدلب وشرق حلب، فتخضع لقانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 73 لعام 2023.
ويتضمن كلا القانونين تحديد إجراءات التحقيق، المحاكمة، العقوبات وحق الدفاع والاستئناف بهدف ضمان حقوق المتهمين والمجتمع، لكن القانونين يختلفان في مرجعية التشريع والأحكام وبعض الإجراءات حسب المحامي جمعة أبو الزين.

قرار بإحداث منصب (رئيس العدلية) وإلغاء منصب المحامي العام الأول في عدليتي دمشق وحلب

ولا يختلف كثير من المحامين على الإجماع بأن المشكلة الأكبر التي تواجه عودة عملية التقاضي إلى مسارها الطبيعي والعادل هي نخر الفساد في الجسم القضائي. والمثل المشهور بين السوريين أن “المحامي الجيد يعرف القاضي والمحامي الفاشل يعرف القانون”.

كما أن القضاء سابقًا لم يكن سلطة مستقلة بالمطلق، بل كان يخضع بعمله لإشراف السلطة التنفيذية التي تفرض أوامرها عليه وتعينه. فالمحكمة الدستورية مثلاً تعيّن من قبل الرئيس لتراقب دستورية القوانين التي يصدرها، ويستطيع عزل قضاتها متى يشاء، وجميع القضاة في سوريا يعينون سابقاً بمرسوم جمهوري.

اليوم، هناك حديث كثير عن إعادة هيكلة القضاء، وعن قوانين جديدة، وعن عملية عدالة انتقالية سيكون استقلال القضاء النزيه عمودها الفقري. لكن الإجراءات حتى الآن، لا توحي إلا بعملية إعادة ترتيب للأوراق حسب تجاذبات القوة الجديدة.

ورغم أن الإعلان الدستوري أكد على استقلالية السلطة القضائية وحيادها وعدم جواز إنشاء محاكم استثنائية، إلا أنه قد أعطى الإعلان رئيس الجمهورية سلطات واسعة بما يتعلق بتعيين القضاة وعزلهم ونقلهم.

على المستوى التنفيذي، تم إلغاء منصب المحامي العام الأول في دمشق وحلب، واستحداث مناصب جديدة كرئيس العدلية في كل المحافظات، دون أن تكون هناك رؤية واضحة حول طبيعة مهامه واختصاصاته، غير تعيينه من قبل الإدارة السياسية الجديدة، في وقت يجب منع أي تدخل من السلطة التنفيذية قد يُضعف من دور القضاء كمؤسسة مستقلة في تحقيق العدالة وضمان سيادة القانون خلال المرحلة الانتقالية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *