شيماء شريف
لم أعرف الحي الّذي أمضيت فيه طفولتي وجزء من شبابي. جميع معالم حارتنا مدمّرة، دكانة أبو محمد والمسجد على كتف الحارة لم يبق منه ما يدلّ عليهما. شعرت هناك وأنا أتمشى بجوار منزلنا القديم، وأغوص في الحارات مجهولة المعالم، بأنني في “يوتوبيا”، الرواية الّتي كتبها أحمد خالد توفيق قبل أكثر من عشرين عاماً، ووصف فيها مدينة من الفقراء والمعدمين والمشرّدين والمرضى يحيطون بمنطقة صغيرة يسكنها الأغنياء الّذين يحيطون أنفسهم بعناصر من الكوماندوس لحمايتهم من المحيط الفقير الّذي يلفهم من جميع الاتّجاهات.
خطة أمي للعودة
قررت عائلتي العودة إلى بيتنا في مدينة دير الزّور في حي الحميديّة المدمّر بشكلٍ جزئي، بعد مدّة طويلة قضيناها من نزوحٍ إلى نزوح. في البداية وخلال الشّهر الأول للحرب نزحنا أكثر من عشر مرّات من قرية إلى أخرى عندما كانت الرقعة الجغرافيّة للقصف والاشتباكات تتوسع. كانت الأرض تضيق علينا إلى أن نزحنا إلى مدينة الحسكة لسبعة سنوات انهيناها بالعودة إلى مدينتنا، ولكن ليس لبيتنا.
استأجرنا بيت متواضع بل ربّما دون المتواضع في حيّ القصور الّذي يعتبر الحي الوحيد مع حي الجورة الّذي لم يقصفه جيش النّظام بالبراميل المتفجرة، لأنه كان يتمركز فيه ومنه يقصف بقيّة أحياء المدينة. كانت عودتنا إلى دير الزّور جزء من مخطط بعيد المدى لوالدتي التي أخذت على عاتقها ولمدّة عامين كاملين مسؤولية إقناع جيراننا الموجودين خارج حارتنا القديمة بالعودة.
كانت تزور من تمكّنها ركبتيها من الوصول إليهم وتتصل باللاجئين منهم في دول عربيّة وحتّى أوربيّة، كانت تقول لهم بأنّ وضع البلد تحسّن وبأنّ المنطقة آمنة، الدّمار موجود ولكن بعيد (بعيد من وجهة نظر أمّي تعني خارج المنزل).
غالباً كان جيراننا الموجودون في أوروبا يختصرون هذه المكالمة قدر الإمكان ربّما لأنّ العودة بالنسبة إليهم أصبحت أمراً خارج مخططاتهم حتّى المستقبليّة منها. أمّا جيراننا المتواجدون في تركيا أو محافظات سورية قريبة، فكانت المكالمة بينهم وبين أمّي تطول، تتخللها مشاعر وأسئلة عن منزل الشّخص الّذي على الطّرف الثّاني من المكالمة مع أمّي، ثمّ يسألها عن منزل أبو محمّد وأم أيمن ومنزل ناعسة، ترسل لهم أمّي صوراً للحي وتتعمّد إرسال صور تظهره بشكل مقبول. في النّهاية يحاول الجار الّذي على الهاتف التّملص بعد أن يشعر بأنّ والدتي ستورطه بوعد العودة القريبة. يقول لها… سلمي سلمي… ثمّ ينهي المكالمة.
بعد سقوط النّظام أصبحت العودة لبيتنا الأصلي (ملكنا) بالنسبة إلى والدتي هاجساً، غاية تريد أن تبلغها مهما كان الثّمن، حتّى لو كان عزلة سنعيش فيها وظلام دامس علينا التّعايش معه. وبالفعل وبطريقة ما وجدنا أنفسنا نحزم أمتعتنا وأغراض بيتنا القليلة وننتقل إلى بيتنا الّذي أصلحته أمّي خلال العام الماضي، ولكنّه لايزال بحاجة إلى كثير من الترميمات.
الأيام الأولى لنا في بتينا:
أوّل مرّة دخلت إلى بيتنا، وجدته أصغر مما كنت أتخيّل، مع أنّ مساحة بيتنا ٢٠٠ متر مربع، ما عدا الحديقتين الأماميّة والخلفيّة، ولكنني كنت أتذكره بأنّه أكبر بكثير مما وجدته عليه. عندما بدأت الحرب كان عمري 19 عاما، هذا يعني بأنني لم أكن طفلة صغيرة ونموي جعل المنزل أصغر بنظري. ربّما البلاط المنتفخ وانخفاض أرضية المنزل بتأثير الرطوبة الّتي سببتها كسور في شبكات المياه كان لهما دور في تغيير شعوري بالتوازن. في الصّالون تمددت لأوّل مرّة على البلاط البارد كما كنت أفعل في طفولتي واستعدت الحديث مع الأشكال أو الأشخاص الّذين يشكلهم البحص الموجود داخل البلاط القديم. هؤلاء بالنسبة إليّ أصدقاءٌ قدامى. كان في واجهة البيت (داكونة) أيضاً تُشكل فراغاً بين سقفه وأرضية بلكون الدور الأوّل من المنزل، هناك كنت أختبئ لساعات ولا أنزل قبل أن تبحث عني العائلة لساعات، أحياناً لم يكن ينتبه لغيابي أحد ولا يخرجني سوى الشّعور بالجوع.و
لهذا المنزل معي ذكريات قاسيّة كثيرة. ساعات الوحدة الطويلة، تسلط شقيقي الأكبر، وخوف الحرب الأول قبل ان نعتادها. بصراحة كانت عودتي إليه بعد كلّ هذه السّنين مزيج من الألم وخيبة الأمل وفرح غامض. ربما كان يجب أن أكون في مكان بعيد مثل جميع بنات حارتنا اللواتي لم يرجع منهنّ أحد. جميعهنّ سافرن أو تزوجن أو قتلتهنّ الحرب، وعندما تصل أفكاري إلى هذا الجزء من الحوار الداخلي، أصبح مقتنعة أكثر بقدري، فالبيت المدمر أفضل بالتأكيد من الموت.
اعتياد ما كان عاديا
لم أستطع حتى الآن ان استعيد شعور الألفة مع البيت. عليّ ايضاً، أن أحمل هم البعوض الّذي يحرمني من النّوم ليلاً. القمامة المنتشرة في هذه الأحياء هي ما يجذب هذا البعوض. أيضاً، هناك أصوات جيراننا، الّذين يمضون نهارهم متعاركين تحرمني النّوم نهاراً. بصراحة، كان أقسى ما في عودتي هو إدراكي التّام بأنني نزلت درجة جديدة في السّلم الاجتماعي بسبب سكني في هذه المنطقة المعزولة والّتي كانت من قبل قلب المدينة النّابض. أكثر من مرّة أشاهد سيّارات حديثة تتجول في المنطقة لتقديم المساعدات، بدون مقابل أو بمقابل كما أخبرتني جارة لنا في الحي. أصحاب هذه السيّارات يعتقدون بأن فرصتهم للحصول على خليلات من هذه الأحياء أكبر بسبب فقر النّساء المقيمات فيها المدقع. تصيب قلبي الحسرة كلّما فكّرت بأنّ أحد هؤلاء الحمقى المتسكعين في سيّاراتهم ينظرون لي بعين العطف والشّفقة أو بعين الاستغلال ولا يعرفون بأني طالبة دراسات عليا في الهندسة الزراعية، وكاتبة، وإنسانة قبل كلّ شيء، وبأنّ سكني هنا بسبب رغبة والداي بالعودة إلى بيتهم الّذي بنوه غرفة بعد غرفة. كيف يمكن أن أشرح لهذا المغرور بسيّارته وهو غالبا أحد مغتني الحرب، أهميّة هذا البيت بالنسبة إلى زوجين في السّبعين من عمرهما عاشا فيه شرارة الحب الأولى وعنفوان الشّباب، ثمّ أتذكّر بأنّ نظرته هذه لا تعني لي شيء ولا لوالديّ.
الحقيقة التي أتردد في قولها، أني سعيدة في نهاية المطاف. ليس فقط، لأنّ أمنية أمّي تحققت أخيراً. بل لأن عودتنا تعني بطريقة أو بأخرى أن الحق يعود لأصحابه دوماً. كانت أمي فخورة لدرجة أنّها رحّلت وحدها بعض الحجارة والفوضى الّتي تركها العمّال أثناء ترميم المنزل ونظفت البيت بينما كنت اتكور على نفسي، يائسة من كميّة العمل المتراكم، ولم أساعدها إلّا في الأجزاء الأسهل من العمل. عرفت من طاقتها هذه بأنّها سعيدة فالإنسان المتحفّز تشعر بأنّ ملائكته ترقص وتعمل معه، والإنسان المخذول ملائكته تندب إلى جانبه.
أمّي لم تشتر هذا المنزل، قامت هي ببنائه. والدي لم يكن يستعجل امتلاك منزل. كان يفضّل العيش بسعة بعيداً عن الجمعيّات والمطمورات، ولكنّ إرادة أمّي كالعادة كانت تنتصر، عاشا الحرمان حتّى تمكنا من بناء هذا البيت غرفة بعد غرفة، مع كلّ طفل ينجبانه كانا يبنيان غرفة جديدة، ولهذا لست غاضبة من أمّي لأنّها أعادتنا إلى هذا البيت وإلى هذا الحيّ الّذي يذكّرني بيوتوبيا، إلّا أنّ مدينتنا لم يعد فيها حي للأغنياء يحرسه الكوماندوس مثل يوتوبيا، لأنّ الجميع هنا يعاني من الشّوارع المظلمة، والمياه الملوّثة، ومن الفقر، والبطالة، والمرض، إلّا أنّ الجميع يحمل أملاً بأن يعيد بناء بيته المدمر علّه يشفي جروحاً وذكرياتٍ مُدمرة.