الإرادة

التوحد والسينما: كيف أرى العالم؟ ما هو العالم في داخلي؟

أحياناً عليك ولوج عالم الآخرين لتكتشف ماذا ينقص عالمك الخاص

التوحد والسينما: كيف أرى العالم؟ ما هو العالم في داخلي

خليل سرحيل

توفي في منتصف هذا العام دونالد تريبيت، أول مريض تم تشخيصه بمرض التوحد، بعد أن عاش 89 عاماً. ومنذ ذلك الحين، لم يتوقف العالم عن محاولة فهم هذا المرض ومعرفته من خلال البحث والدراسة. وقد أصبح مرض التوحد محور اهتمام مشترك للحكومات والمجتمعات، التي سعت إلى نقل واقع المرض والتعاطي معه بمختلف الطرق. ومن بين هذه الطرق، كانت السينما، التي تناولت هذه القضية بشقيها التوثيقي والدرامي.

وعبر التوحد مرحلة جديدة من الشرح والمعرفة بواسطة السينما والفنون. واستطاعت السينما تغطية مدى واسع من الأفلام، تارة في شرحها عن التوحد كمرض حديث المعرفة وتارة في استخدام خصائص مرضى التوحد العبقرية كما في حبكات الأبطال الخارقين.

ومن خلال هذه الأعمال الفنية، تمر الكثير من التفاصيل المتعلقة بمرض التوحد في محاولة من السينما لأنسنة هذا المرض وتعريف الجماهير به. وخلق فرص أكبر لمعرفته وتشخيصه وبالتالي التعامل معه. كما أنها تعبر ولو بشكل قد يبدو درامي عن العلاقة بين مريض التوحد والأشخاص المحيطين به، وبهذا بعد علاجي آخر لمرضى التوحد وذويهم.

وفي ثلاث فئات رئيسية وهي الدراما والوثائقيات والمسلسلات التلفزيونية، نستعرض بعض الأمثلة على الأفلام التي تناولت موضوع التوحد:

في فئة الدراما، استطاع فيلم Rain Man خلق الجدل وتأمين ردة فعل جماهيرية حول موضوع التوحد من خلال قصة الأخوين ورحلتهما لأخذ الميراث. وكان التوحد جزءاً من شخصية الممثل داستن هوفمان، كحدث رئيسي يتم استعراضه طوال الفيلم، في مسار حقوقي وإنساني. ونال داستن هوفمان جائزة الأوسكار عن الدور.

أما في فيلم Forrest Gump، لم يتم أبداً ذكر التوحد على الرغم من أنه شيء أساسي في شخصية الممثل توم هانكس. وربما كان السبب في ذلك تفادياً للجدل الذي سببه دور داستن هوفمان في فيلم Rain Man، في تعميم صورة نمطية خاطئة عن المصابين باضطراب طيف التوحد وافتراض أنهم عباقرة. ولكن ما لا شك به أن كلا الفيلمين استطاعا جذب فئة كبيرة من الجماهير لقضية التوحد والقيام بحركات توعوية وإنشاء منظمات تهدف لنشر الوعي والعلاجات والبحوث العلمية المختصة باضطراب طيف التوحد.

وعلى جانب آخر، ذهب فيلم My Name Is Khan إلى حمل رسائل كثيرة عبر بطل مسلم يعاني من التوحد يذهب في رحلة لمقابلة الرئيس الأمريكي وإخباره بأنه مسلم وليس إرهابي. حمل خان في رحلته الطويلة ما يبدو تلخيصاً لواقع المصابين باضطراب طيف التوحد عبر مراحل الحياة المختلفة في بلدان العالم الثالث ويظهر بصورة قوية علاقة الأهل وتعاملهم الخاص في التربية والتعليم وأهميتها كرسالة أولى. نقل واقع خان القاسي صعوبة التعامل مع مصابي التوحد ومن خلال هذا الواقع يحاول خان نشر السلام بين الجميع. تماماً كما علمته أمه في الطفولة. هذه الرسائل وفي مخاطبتها القيادات السياسية في الولايات المتحدة تم إيصالها عبر التوحد ساهمت بخلق وعي أوسع لجمهور ممتد حول العالم ينضم لقافة الوعي بالمرض.

في فئة الأفلام الوثائقية، قامت الأفلام الوثائقية بالغوص أكثر من الدراما في عالم التوحد وتم صناعة أفلام كثيرة ومهمة تتناول فيها مرضى التوحد في حالات كثيرة معتمدة في معالجتها على الأرقام والأبحاث العلمية مرتبطة مع أمثلة حقيقية وليست درامية. وخلقت هذه الأفلام الإنسانة لمرض التوحد من خلال تعريف أوسع وأشمل وأدق لحالات عانت من التوحد ومنها:

فيلم Autism: The Musical عن رحلة أطفال مصابين باضطراب طيف التوحد لعزف الموسيقى. يضيء الفيلم على الأهالي وعلاقتهم في تحقيق أحلام أطفالهم، عبر كمية كبيرة من المقابلات التوثيقية مع أرشيف الأطفال القديم، في طريقهم نحو تحقيق حلمهم بأن يصبحوا موسيقيين. في هذا الفيلم، التوحد ليس القضية المعالجة عبر الوثائقي، بل المجتمع المحيط في محاولة لتقريب وجهات النظر وإدخال المجتمع في حياة الشخص المصاب بالتوحد وليس العكس.

فيلم The Horse Boy عن العائلة التي لديها طفل يعاني من التوحد وعن الرحلة المجنونة التي قررت القيام بها للتعامل مع التوحد. حيث تعبر العائلة في رحلة علاجية عبر المحيط إلى أكبر دولة لديها عدد أحصنة في العالم وهي منغوليا للبحث عن راحة الطفل المصاب بالتوحد وهو يعشق الخيل ويحب الاقتراب منها. يظهر الفيلم كيف تتأثر العائلة بالثقافة والتقاليد والطب البديل في منغوليا وكيف تتغير علاقتهم مع ابنهم ومع بعضهم البعض.

فيلم The Reason I Jump عن الداخل غير المعروف، داخل المصابين بالتوحد في محاولتهم ليكونوا بشراً ولا شيء غير ذلك. في عمر الثالثة عشرة، كتب الطفل المصاب بالتوحد ناووكي هيغاشيدا كتاباً يحتوي على خريطة عقله وأسئلة وأجوبة كثيرة. تعطي التصور واضحاً عما يدور داخل الشخص المصاب بالتوحد. ونال هذا الكتاب الكثير من الاهتمام لأنه صدر عن شخص يعاني من التوحد، يحاول به نقل صورة حقيقية عن مصابي التوحد وحقهم في حياة طبيعية وغير معقدة. وعبر فهم لماذا مصاب التوحد يقفز، قد يرغب الشخص غير المصاب بالقفز أيضاً. وبعد انتشار الكتاب، تم صناعة فيلم وثائقي عنه، يتبع حياة خمسة أطفال مصابين بالتوحد في بلدان مختلفة ويستكشف عوالمهم الداخلية وطرق تواصلهم.

في فئة المسلسلات التلفزيونية، تفاعلت المسلسلات التلفزيونية مع موضوع التوحد في إدخال التوحد كصفة في شخصيات أبطالها، تكرس هذه الصفة فهماً خاطئاً للصورة العامة عن التوحد، مثل الذكاء الشديد والعبقرية في محاولة لأن يكون البطل بشرياً لكنه خارقاً، مثل مسلسل The Good Doctor عن طبيب مصاب بمتلازمة العبقري، لا يفهم الدعابة لكنه يعالج المرضى بإبداع وعبقرية. يقدم المسلسل محاكاة عن ذكاء مصابي متلازمة العبقري، ولكنه يتجاهل الجوانب الأخرى للتوحد، مثل الصعوبات الاجتماعية والعاطفية والسلوكية.

ولكن هناك أيضاً مسلسلات تلفزيونية تحاول تقديم صورة أكثر واقعية وتوازناً عن التوحد، مثل مسلسل Atypical عن مراهق مصاب بالتوحد يسعى للحصول على حياة طبيعية ومستقلة وعلاقات اجتماعية وعاطفية. يظهر المسلسل كيف يتعامل المراهق مع التحديات والتغييرات في حياته وكيف تتأثر عائلته وأصدقاؤه بوجوده ومرضه.

وفي تجربة عربية، نذكر مسلسل ما وراء الشمس، الذي صور مرض التوحد بشكل مختلف عن الأعمال الأجنبية. ففي هذا المسلسل يلعب الفنان بسام كوسا دور ‘بدر’ الأربعيني المُصاب بمرض التوحّد، يعيش بدر وحيداً مع والدته الفقيرة، بعد أن هجرتهم أخته ‘بدرية’ ميسون أبو أسعد في محاولة منها للبحث عن حياة قد تكون أفضل وأدى كوسا واحدا من أفضل الأداءات التمثيلية في تاريخ الدراما العربية، واحتوى على تفاصيل واقعية من الناحية العلمية الطبية.

الفيلم اللبناني «بالصدفة» للمخرج باسم كريستو عن قصة وسيناريو وحوار لكلوديا مرشليان، عرض عام 2019، وهو البطولة السينمائية الأولى للنجمة كارول سماحة، بمشاركة كل من بديع أبو شقرا ومنير معاصري وباميلا الكيك التي تؤدي فيه دور شابة مصابة بمرض التوحّد، تقيم في حي شعبي فقير في بيروت، يقبل أن يصل إليهم رجل أعمال سُرقت حقيبته، فقرر اللحاق باللص الذي احتمى في هذا الحي تحديدًا.

بدورها السينما المصرية قدمت سنة 2007، فلم «التوربيني» من تأليف محمد حفظي وإخراج أحمد مدحت، ومن بطولة شريف منير، أحمد رزق، وهند صبري. يروي الفيلم قصة محسن الذي يعاني من مرض التوحّد، وعلاقته بشقيقه الأكبر كريم بعد وفاة والديهما.

تظل الأفلام والمسلسلات تحتفل بتنوع تفاصيل مرض التوحد، مما يعزز الوعي العام ويعمل على نقل قصص حقيقية ومعقدة حول هذا الاضطراب. يبقى التحدي الكبير في تحقيق توازن دقيق بين التوعية والدقة العلمية، وذلك لضمان أن تلك التفاصيل لا تقتصر على السطح، وإنما تساهم في فهم أعماق التوحد والتفاعل معه بشكل أفضل.