منصة إرادة- مادلين جليس
لم تكن طفولتي مثالية، ولم أعشها باللعب واللهو كما غيري من الأطفال، فالأولاد الكثر الذين أنجبهم والدي لم يكن ليطعمهم سوى عمل كل واحد منهم وكأنه فقط معيلُ نفسه. لم يكن أبي يؤمن بالدراسة، ولا بأهميتها، بل كان على يقين تام أن المهن هي التي تطعمنا خبزنا، ولذلك فإنني كما كل إخوتي، لم نتعلم، ولم نحصل على شهادات جامعية.
تنقّلت بين مهن عدة، أتقنت أغلبها، لكنني في النهاية وجدت نفسي في التصليح، تصليح الأدوات الكهربائية، خاصة البرادات والغسالات والمكيفات. كثيراً ما تمنيت حمل حقيبة مدرسية، والسير في طريق المدرسة الذي كان يقصده من هم في سني، حلمت بواجبات كثيرة متراكمة، متمنياً تجربة هذا الشعور.. هل هو مزعج كما كان يصفه أصدقائي الذين درسوا؟ اسمي محمود الخضر وهذه حكايتي:

جسدي الذي نسيت نصفه في المستشفى
إصابتي كانت بقذيفة صاروخية وقعت فوق البناء الذي كنت موجوداً فيه، دمّرت المكان من حولي، للحظة فقط شعرت بروحي تطير في السماء، وتبتعد عني، ناديتها بقلبي، فتحتُ لها يديّ المُدْمَيتين، فعادت لي، وأعادت النبض لقلبي.
في تلك اللحظة كنت أدعو الله ألا أفارق الحياة دون رؤية ابتسامة أمي، دون أن أشعر بيديها الدافئتين تحتضنان كلَّ أوجاعي، وتزيلان عن جسدي تعب الحرب والقتال، وتمحوان رائحة الدماء من ذاكرتي المتعبة.
مرت دقائق من الصمت المخيف، لم أعرف حينها إن كنت حياً أم ميتاً، لكن أصوات المسعفين حولي أكدت لي أنني حيٌّ، كانوا يتحدثون عني يؤكدون وفاتي، واندثار جثتي تحت الأنقاض، لكن الله منح قلبي قوة الصراخ، الصراخ الموجع، إلى أن عثروا علي وانتشلوا الجسد المتضعضع.
في المستشفى لم يكن الأمر مختلفاً، فقد سمعت بأذني أصوات الأطباء وهم يوصون والدتي بتوديعي والدعاء لي بالرحمة والمغفرة، فأيامي معدودة، ولا أمل في شفائي، وأنا المصاب بشظايا تناثرت في كل نقطة من جسدي وجعلتني ممداً على سرير المرضى، ملفوفاً بالشاش الأبيض في كل مكان حتى ليخيل لمن يراني أن الكفن قد لفّ جسدي في انتظار مواراته الثرى إلى الأبد. في بداية إصابتي خُيّل إليّ أن قدمي مكسورة، لكن صدمتي الكبرى كانت حين علمت ببترها.
لكنني تحليت بصبر لم أعرف مصدره، ووجهت السؤال حول عينيَّ المضمدتين، ورغم تأكيد الأطباء أن التشوش في الرؤية مؤقت وأن العلاج سيحسن النظر وقد يعيده إلى ما كان عليه قبل الإصابة. إلا أن الحقيقة كانت عكس ذلك تماماً، فقد اكتشفت، وبعد فوات الأوان وجود خيوط بلورية في عينيّ أدت فيما بعد لخسارة النظر مدى الحياة.
بداية من المنتصف:
خرجت من المستشفى نصف محمود الذي كان، برجل واحدة، وأذن واحدة، وقدم واحدة، ويدين، وعزيمة لا تُكسر.
مارست بعد ذلك السباحة، وتابعت التمارين والعلاج لدى أحد المراكز التي كانت تقدم العلاج مجاناً قبل أن يغلق أبوابه لأسباب مالية.
بعد أن تأقلمت مع وضعي الصحي، قررت خوض حرب الحياة أكثر، فعمدت إلى الزواج وإقامة عائلة أضمد جراحي بدفئها، لكني فوجئت فيما بعد بوجود لُطخة في عين زوجتي، جعلت بصرها يتراجع رويداً رويداً. وعلى الرغم من حرماني من التعليم في صغري، إلا أن الهاجس الأكبر الذي راودني ليلاً نهاراً بعد إصابتي، كان حول إمكانية إكمال تعليمي.
تساؤلات كثيرة ومخاوف أكبر، كلها تلاشت ذات صباح عندما قررت أن أجعل لحياتي معنىً حقيقياً، وأخذت وعداً على نفسي ألا أسمح لشيء بالوقوف أمامي، فحصلت على التاسع، ومن ثم حصلت على شهادة الثانوية العامة، والآن أدرس الحقوق في الجامعة الافتراضية بجهد وعناء كبيرين، وبصعوبات بالغة قد تقف حائلاً بيني وبين إكمال الدراسة، أولى هذه الصعوبات أنني لا أجد من يقوم بتحميل المحاضرات لي على جهاز اللاب توب الخاص بي والذي قدمته لي إحدى الجهات كمساعدة.
في بداية دراستي، كانت أمي تقرأ لي المحاضرات، لكن تقدمها في العمر وهي التي لم تحصل إلا على شهادة التعليم الأساسي، كل ذلك منعها من مساعدتي من قراءة المحاضرات على الرغم من رغبتها العارمة في تقديم أي عون ومهما كان شكله لمصلحة ابنها المصاب.

الأيادي المقطوعة
لكن الحياة بعد الإصابة ليست كما قبلها أبداً، فالابتسامات الكثيرة التي كانت تحوم حولي، أغلقت بعد إصابتي، وأصبحت الوجوه جامدة، أما الأيادي الكثيرة التي مدت إما لطلب العون مني أو لاستلاف الأموال، فقد اختبأت كلها وراء ظهور أصحابها لمجرد حاجتي ليد واحدة تساعدني على المشي دون التعثّر والوقوع.
مددت يديّ، بحثت عن هذه الأيدي، لكني لم ألمس سوى الهواء، ولم تصطدم كفاي بغير كلام طار مع أول نسمة خريف هبت على حياتي. كيف يتنكّر الناس لمن انتشلهم يوماً ما؟ كيف يديرون ظهورهم لمن ساعدهم، كيف يعبسون للعيون التي ابتسمت لهم في أصعب ظروف حياتهم؟.
اليد الوحيدة التي امتدت لي ولاتزال، هي يد إخوتي، فعلى الرغم من ظروفهم القاسية، إلا أنهم لم يديروا لي ظهورهم، بل جعلوا مني ومن عائلتي أفراداً من عوائلهم.
سلاحي المفقود
لدي الآن طفل واحد، نوح، لا أدري كيف يكون شكله، أمي تخبرني أنه بعينين زرقاوين وبشرة بيضاء، جيراني يلاعبونه ويصفون لي ذكاءه وسرعة بديهيته، أما قلبي فيصفه بأجمل الصفات وأعذبها. أتلمس يديه، فأشعر أني أرى الكون من جديد، يتساقط مئة لون ولون أمامي، وتختفي الغيوم الرمادية التي استوطنت عيناي ولما تمطر بعد… أتلمس يده وأصابعه، تتراقص ذراعي وتنمو أصابعي حتى أقطف له نجوم من أحلام لم أطلها. أضع رأسي على قلبه، أسمع دقات قلب بريء لا يعرف القسوة والكذب والحرب. أصلي على وقع دقات قلبه، أن لا يعرفها، أن لا يسمع صوت قذائف، أو يرى شلالات الدم أو يعيش الكراهية، أن تكون له بلاد تحميه.
جل همي منصب الآن في دفع ابني لنيل أعلى الشهادات، كل ما أتمناه حقاً أن يحيطه الخالق برعايته كما أحاط والده، وأن يمدني بالقوة والعمر لأعلمه أكثر ولأقدم له نصائح تمنيتها في شبابي.
والأهم من ذلك كله، أن أخبره أن العلم هو السلاح الوحيد والأقوى القادر على بتر الفقر، وقطع يد الظلم عنه…

One Response
الله يصبرك ويعطيك لحتى يرضيك ابو نوح وتفرح بنوح وتشوفو احلى عريس