وسيم كناكرية
اسمي جودي كتكوت، وأنا من سكان حرستا في الغوطة الشرقية. كلُّ ما أتذكره من طفولتي هو أصوات القصف والطائرات، أزيز الرصاص، الحصار والجوع. عندما بلغت الثانية عشرة، اشتد القصف علينا، فاضطررنا للنزوح إلى بيت أقاربنا في الغوطة الشرقية، حيث لم يكن الوضع أفضل حالًا. كانت الطائرات تحلق فوقنا ثم تنقض وتقصف، حاملة الموت والرعب لمن يراها. على عكس ما كانت تحكيه لي أمي عن طفولتها، حين كانت تقفز فرحًا لرؤية أي طائرة عندما كانت في مثل عمري. أنا أيضًا قفزت عندما حلقت الطائرة فوقي، ولكن ليس فرحًا، بل من ارتداد صاروخ لم أره، فسقطتُ على الأرض وغبتُ عن الوعي في ظلمة حالكة… ظلمة أبت أن تغادر عينيَّ، لكنها غادرت قلبي الذي لم يتسع لها.
النور المفقود… الأمل المفقود
لم أسمع بكاء وصرخات أقاربي وهم يبحثون عنا. لم أشعر بهم يحملونني إلى مكان أطلقوا عليه اسم “مشفى”. لم أسمعهم يخبرون أقاربي باستشهاد ابنتهم. لم أسمع دعاء أمي لي، ولم أرَ دموعها التي لم تتوقف حتى عدتُ إلى الوعي بعد ثلاثة أيام.
بدأت أسمع أصواتًا حولي، لكنني لم أكن أعي ما يقولون. لم أستطع الكلام بسبب كسر في الفكين، كما أخبروني لاحقًا. عندما بدأت أدرك ما يُقال، سمعتُ شخصًا يقول إنهم استأصلوا عيني اليسرى، مما سبب نزيفًا في العين اليمنى. نزيفاً لم يعد لديهم القدرة على إيقافه. حينها أدركتُ أن كلَّ ما أراه هو سواد فقط.
أخبر الطبيب أهلي بضرورة نقلي إلى دمشق بأسرع وقت للحفاظ على عيني اليمنى ووقف نزيفها، لكن الدخول والخروج من الغوطة وإليها كان ممنوعًا. حاول أهلي كثيرًا الحصول على استثناء لإنقاذي، لكن محاولاتهم باءت بالفشل. كان الحاجز يرفض دائمًا ويطردهم بحجة أنهم “إرهابيون” لا يستحقون الرحمة أو حتى الحياة. ومع إصرارهم وتوسلاتهم، بدأت عملية الابتزاز. بدؤوا أولًا بالمفاوضة على إخراجي مقابل الأسرى الموجودين في الغوطة، لكننا كنا مجرد مدنيين عاديين لا نملك سلطة على أحد. ثم تحولوا إلى الابتزاز المادي، الشيء الآخر الذي لا نقدر عليه. فكان الثمن عيني الثانية، فالنزيف تفاقم وأدى إلى تليف في الشبكية.
بعد النجاة: بداية صفحة جديدة
بعد شهرين من إصابتي، دخلت قوات النظام إلى الغوطة، وذهبت قوات المعارضة إلى الشمال. بقيتُ على فراشي عامًا كاملًا تحت العلاج، 365 يومًا نحاول إصلاح ما أفسده قرارٌ عسكري لم يستغرق أكثر من 30 ثانية. عام انتهى، وبدأت بنهايته صفحة جديدة بعنوان “جودي والإعاقة البصرية”. كانت أمي بجانبي طوال ذلك الوقت بحنانها وعنايتها ودعائها. وإلى جانب أمي، كان هناك أمل لا يفارقني بأنني سأعود لأرى كسابق عهدي؛ أرى وجه أمي ترتسم عليه ابتسامة ترد بها على نظرات ابنتها لها، أرى وجوه أهلي التي اشتقت لها، أرى ألعابي وألوان ثيابي، أخرج وحدي وألعب مع أصدقائي، وأذهب إلى المدرسة كبقية من هم في عمري.
انتهت رحلة العلاج وبدأت رحلة البحث عن التقبل. بدأنا نبحث عن مدرسة لأكمل تعليمي، لكن الأمر لم يكن سهلًا. فـ”جودي” قبل عام ليست كـ”جودي” الآن. بين عدم جاهزية المدارس المحيطة بنا لاستقبال حتى الأشخاص من غير ذوي الإعاقة، وبين تخوف أهلي من التنمر وعدم تقبل المحيط لوضعي الجديد، بقينا نتخبط ناظرين بخوف إلى مستقبل قد يحكم عليَّ بالجلوس بين أربعة جدران للأبد، والحياة في العتمة الحقيقية، عتمة الجهل. ظل الحال هكذا حتى سمعنا بمدرسة تُدعى “بسمة أمل”، وهي مدرسة خاصة بالمكفوفين وضعاف البصر القادمين من الغوطة والمناطق المنكوبة. أو بعبارة أخرى، خاصة بمن فقدوا نور أعينهم على يد من يُفترض أن يكونوا حماة الديار.
ذهبتُ إلى هناك وفجأة لم أعد حالة خاصة. فالكثير هناك تتشابه قصصهم مع قصتي، مع اختلافات في طريقة حدوث الإعاقة. فهذا أصيب بقذيفة، وذاك بقنبلة، وتلك برصاص قناص، وذاك بمخلفات صاروخ، وهناك من أصيب أكثر من مرة بأكثر من قذيفة. أحببتُ ذاك المكان وبدأتُ أتأقلم على وضع جديد. والآن، أنا أُحضّر نفسي لامتحانات الثانوية العامة، وأتطلع بقلبي إلى مستقبل أرسمه بيدي وأخطو إليه بثقة، حتى لو استعنت بعصا بيضاء ترافق خطواتي
الحرب السورية تسببت في أعداد هائلة من الإعاقات الجديدة، بما في ذلك الإعاقات البصرية، وتتجاوز هذه الأرقام بكثير المستويات العالمية، مما يشكل تحديًا إنسانيًا وطبيًا واجتماعيًا ضخمًا.
لازال الأمل يدغدغ عينيَّ
أتمنى أن أعود لأرى؛ أرى وجهي في المرآة، أرى وجه أمي، أخرج من ظلمة لا أتمناها لأحد في هذه الدنيا سوى من كان سببًا في فقداني بصري. أعود لأراه يلقى حسابه العادل جزاءً لما فعله بي وبالكثير من أصدقائي.